كلمة تأبينية في ذكرى وفاة كبير قومه شيخ المناضلين الشيخ/عبدالله بن حسين الأحمر *د.أحمد محمد الأصبحي

 

عضو مجلس الشورى عضو اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام 17/12/2008م

 

ومرَّ عام على وفاة كبير قومه وشيخ المناضلين ، وقيل أقيال اليمن وحكيمها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ/عبدالله بن حسين الأحمر - طيب الله ثراه - ودع الدنيا منتقلاً إلى رحمة ربه الرحمن الرحيم ، مخلفاً وراءه ذكرى سيرة حميدة ، عبقة ، عطرة ، فواحة بروائح المسك والعنبر والعود ، وشذى الرياحين والورود ، سيرة تفيض بها قلوب محبيه قيماً أصيلة ، ومواقف نبيلة ، وأخلاقاً كريمة ، وأعمالاً جليلة ، وسلوكاً سامياً ، وحكمة بالغة نال بها جميعاً منزلة رفيعة ، ومكانة سامية ، ستظل شواهد عز ومجد يتأسى بها السائرون على خطاه ، والعاملون لخير الشعب والوطن والأمة ، ومن يجود بهم حاضر ومستقبل الأمة من الأفذاذ.

ودّعنا فقيد الشعب والأمة قبل عام ، وشهود الله في أرضه تشيع الفقيد بقلوب محزونة على فراقه ، وقد توافدت على العاصمة صنعاء من كل فج عميق من داخل الوطن ومن خارجه ، وتزاحمت كلمات الرثاء الصادقة بالوقوف على سيرته بالثناء ، وقالت في وداعه قولاً بليغاً ، شعراً ونثراً وذكراً مستحقاً حميداً.

فماذا قد يُكتبُ اليوم بعد غزارة ما قيل وما كتب ، وغُطِّي الكثير من جوانب سيرته النضالية الفذة ؟ لكن عملاقاً كفقيدنا لا يمكن لمن عرفه أن يجف له في ذكره قلم ، فما زال مداده يُحبرِّ من ينبوع رجل الحكمة والخبرة والتاريخ الخلاق الحافل بألق النضال ، وشجاعة الإقدام ، وشهامة الأخلاق ، وصدق المواقف ، وإصلاح ذات البين ، ونصرة المظلومين ، ومواساة المهمومين ، وفعل الخير والتشجيع عليه ، وجمع الأمة على كلمة سواء ، فهو واحد ممن أجادوا حمل الرسالة وأداء الأمانة ، لا يختلف عليه إثنان في كونه حكيم اليمن ، وميزان التوازن بين أطيافه السياسية وقواه الفاعلة.

لقد صاغت سيرته الفذة هذه ، حياة خاصة من المعاناة لازمته منذ نعومة أظفاره في أسرة مناضلة هي الرأس في قبيلة حاشد البطلة ، والتي حملت راية المقاومة للظلم والإستبداد الإمامي ، وتعرضت للسجون والمعتقلات والأحكام الجائرة ، واختار الله لوالده وأخيه حميد الشهادة ، وللفقيد إعتقاله - إثر إعدامهما - في سجن المحابشة حتى قيام الثورة المجيدة .لم يعش فقيدنا مطالب الطفولة ، ولا عرف للراحة طريقاً في شبابه ، لكنه استطاع أن يبني شخصية عصامية وسط كوكبة من المناضلين الأحرار ورواد الحركة الوطنية ، وكانت له صحبة رفاقية مع الشهيد محمد محمود الزبيري والأستاذ أحمد محمد نعمان وبعض رجالات الفكر والأدب أمثال السيد أحمد محمد الشامي والأستاذ هاشم بن هاشم ، والأستاذ أحمد جابر عفيف ، وكان يتابع نضال أحرار الأمة العربية ، ويقرأ للعديد من مفكري ومجاهدي المقاومة العربية للإستعمار ، ويتعرف على بعضهم أو سمع عن بطولاتهم وأفكارهم التنويرية أمثال عبدالكريم الخطابي ، وعبدالعزيز الثعالبي وعبدالحميد بن باديس وعمر بهاء الدين الأميري وعلال الفاسي والفضيل الورتلاني ومعروف الدواليبي ومصطفى صادق الرافعي ، وكان يُعنى بالشؤون العربية وإنتصار الثورات في مصر وسوريا والعراق والجزائر وتونس والمغرب وإنتزاع الإستقلال إثر كفاح مرير ضد المستعمرين وظلت القضية الفلسطينية قضيته المحورية ، ومات وفي نفسه شيء من فلسطين وأوضاع أمته التي لاتحسد عليها.

لقد أهلته معاناته وعذاباته وكبرياء الإنتماء إلى أسرة مناضلة عريقة الرئاسة والمحتد ، وما تشكل لديه من ثقافة معرفية رافضة للظلم والإستبداد وحياة جادة لا تعرف اللهو وسط مناخ فكري وسياسي ثائر أهَّلَه ذلك كله ليكون في طليعة الثائرين على ظلم الإمامة وإستبدادها وليضطلع بدور وطني متميز في الدفاع عن الثورة والنظام الجمهوري وتقويم المسار الوطني في إتجاه أهداف ومبادئ الثورة.

لم يغب عن ساحة النضال في أحلك الظروف وأشد المواقف خطورة وهو هو الذي لم يبدل ولم يغير نهجه الوطني ، وهو هو في مختلف مراحل الثورة ، معني بترسيخ النظام الجمهوري عنايته بالوحدة الوطنية وقضايا الشعب ، قاد مؤتمر عمران ، ومؤتمر خمر ، وجعل منهما مؤتمرات شعبية تبلورت فيها إرادة الشعب في رسم خياراته الديمقراطية لنظامه السياسي الوطني في صياغة دستور الجمهورية العربية اليمنية الصادر في 8/مايو/1965م والذي نص فيه على أن اليمن جمهورية ديمقراطية برلمانية.

وهو هو الوطني الغيور الذي لم يتخل عن أداء مسؤولياته وواجباته تجاه شعبه ووطنه ، سواء كان في الحكومة أو خارجها ، والمسؤولية لأي العظماء لا تتأثر بشغل المناصب من عدمها ، واستحق بذلك أن يكون مرجعية شعبية وقبلية ووطنية في آن معاً.

وهو الذي يؤمن بضرورة توفر الأمن والإستقرار لتحقيق التقدم والنهوض الشامل للوطن ، وتجده على الدوام الداعم والمساند للنظام السياسي الوطني ، ولا يسوِّغ لنفسه الخروج عليه تحت أي مبرر ، وما عرف عنه خروج على الزعامات اليمنية المتعاقبة منذ قيام الثورة ، وأقصى ما كان يلجأ إليه تحت وطأة الإضطرار إذا اختلف مع أحدهم - وقليلاً ما يختلف - أن يعبر عن إختلافه بالأساليب السلمية التي تجنب الوطن الفوضى والوقوع في فتنة يتحمل إثمها الجميع ، ولذا ظل يحتفظ بديمومة العلاقات المتينة مع القيادات اليمنية المتلاحقة ، وأخص هذه العلاقات متانةً وتميزاً علاقته بفخامة الأخ الرئيس المشير علي عبدالله صالح الذي يرى هو الآخر في الفقيد قطب الرحى في النظام الوطني ، وإستقراره وتقدمه.

ولقد كان لتكوينه الفطري وتشبعه بالمفاهيم الصحيحة لقيم القبيلة وتشبعه بالثقافة المعرفية النضالية الدور الكبير في صقل شخصيته القائمة على الحرية المسئولة ، والإنتماء القوي إلى الوطن والحرص الشديد على تقدمه وتطوره ، فكان المؤمن بضرورة المشاركة الشعبية والسياسية في صنع القرار.

لذا نجده يؤكد على الحقوق والحريات العامة وعلى الشورى والديمقراطية في الدساتير الصادرة في العقد الأول للثورة اليمنية المجيدة .

واستحق أن يكون البرلماني الأول في النظام الجمهوري ، فقد كان رئيساً للمجلس الوطني ثم رئيساً لمجلس الشورى ورئيساً لمجلس النواب.

وقضت أخلاقه الديمقراطية أن يؤسس العمل التنظيمي بصيغه المختلفة ، فقد كان عضواً قيادياً بارزاً في المؤتمر الشعبي العام ونشطاً فاعلاً في اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام.

وكان يؤمن بالتعددية السياسية والحزبية ، وحين أخذت دولة الوحدة بالنهج الديمقراطي التعددي أضحى الفقيد رئيساً للتجمع اليمني للإصلاح.

عاش جميع مراحل حياته مؤمناً باليمن الواحد ، وكذلك كان تاريخه النضالي وثقافته الوطنية ، وكان محرضاً على الدوام بضرورة التعجيل بإعلان قيام دولة الوحدة ، وأذكر له موقفاً في لقاء بين قيادتي شطري الوطن في طرابلس الغرب أواخر الثمانينات القرن المنصرم حيث قال يخاطبهم : هيا أعلنوا الوحدة هنا وقد نص بيان طرابلس من قبل على لجان الوحدة بما فيها لجنة التنظيم السياسي الموحد ، واليوم لا يسعنا إلا أن نقول : أينما حبلت ولدت.

ولقد كان له دور عظيم في الحفاظ على الوحدة ، وكان الجندي المؤتمن والمنضبط أمام القائد فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح في مواجهة محاولة الإنفصال ودحرها.

وأتذكر بعد قيام الوحدة مداعبته للفنان السوري القدير دريد لحام حين إلتقاه بقوله له : بعد تحقق الوحدة اليمنية ما قولك الآن في ما كنت تردده في مسرحيتك كأسك ياوطن ، اليمن يمنين.

ويعده الكثيرون ممن عرفوه شخصية كارزمية جاذبة بما يتمتع به من دماثة الأخلاق ، وحب الناس ، والوجه السمح ، وإبتسامة المحيا ، يصعب أن يغضبه أحد ، وإذا غضب فهو حليم حكيم ، يعفو عند المقدرة ، ومن روائع سلوكه أنه يُبغض المكيافيلية ويمقتها ويسفه مقولتها الغاية تبرر الوسيلة ، فليست من أخلاق العظماء الذين غيروا وجه التاريخ نحو الأفضل لشعوبهم أن يبرروا إتباع الوسائل غير الشرعية للغايات الشريفة ، فالشرف في الوسيلة لا يختلف عن شرف الغاية وأن الذين نهجوا مقولة المكيافيلية انتهوا إلى أسوأ مصير ، لأن حبل الكذب قصير ، ويقول - رحمه الله - في أكثر من موقف لقد رأيت مصارع هذا الصنف ممن ائتمنوا على أممهم فنكثوا العهد وخانوا الأمانة، وتخلصوا من شركائهم ونصرائهم ، فتخلص القدر منهم بأسوأ النهايات.

بقي أن نختم هذا الحديث الموجز بإيمائه عن إنسانية الفقيد التي لم ينسى فيها حياته الأولى في من يراها فيهم من الضعفاء والفقراء والمحتاجين ، فيسارع بما منَّ الله عليه من الخير ليفيض عليهم إبتغاء وجه الله.

وكم من طالب علم ، ومتعالج من مرض خارج الوطن صادفه في زيارته في أكثر من دولة إلا وأعانه في غير مباهاة أو إعلان.

وهو ينظر إلى جميع أبناء وطنه على قدم المحبة والمساواة ويعطي لكل من يقابله قدره ومكانته ويشعره بواحدية الكرامة دون تمييز ، ومما يمتاز به الفقيد حِفْظُهُ للأنساب كمدخل من مداخل التقدير والإحترام لكل أبناء الوطن الواحد.

وأخيراً.. فهذه الكلمة ليست سوى غيض من فيض في سيرة رجل عظيم تجاوزت شهرته حدود وطنه اليمن إلى وطنه الأكبر وأمته العربية والإسلامية ، وغدت منار عزّ ، وعنوان قدوة للأجيال.

تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته.. ومن خلف ما مات.

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp