اليمن : الأرض .. الإنسان .. التاريخ .

مــــــــــدخــــــــــل

في الطرف الغربي الجنوبي من قارة آسيا تمتد بقعة واسعة من الأرض عاصرت التاريخ الإنساني منذ بداياته الأولى .. وشهدت تطورات حضارية وإنسانية ازدحمت بها صفحات التاريخ والحضارة.

عرفت هذه البقعة من الأرض بـ ( جزيرة العرب ) ، وتدل النظريات الجيولوجية أنها نشأت بسبب حدوث حركات أرضية كوّنت البحر الأحمر ، وفصلت جزيرة العرب عن أفريقيا الشرقية.

تمتد جزيرة العرب على مساحة كبيرة يقدرها بعض المؤرخين والـجغرافيين بـ ( مليون و 300 ميل ) ، ويجعلون طرفها الشمالي الغربي يمتد حتى يشمل شبه جزيرة سيناء ذاتها ..

وحدودها المعروفة هي :

  •   البحر الأحمر وخليج السويس : غرباً.

  • دجلة والفرات وخليج عمان وبلاد فارس: شرقاً.

  • المحيط الهندي والبحر العربي وخليج عدن : جنوباً.

  • بادية الشام وفلسطين شمالاً.

  •   البحر الأحمر وخليج السويس : غرباً.

  • دجلة والفرات وخليج عمان وبلاد فارس: شرقاً.

  • المحيط الهندي والبحر العربي وخليج عدن : جنوباً.

  • بادية الشام وفلسطين شمالاً.

وفي العصور الموغلة في القدم كانت جزيرة العرب تعيش مناخاً على جانب كبير من الاعتدال والخصب : أمطارها غزيرة .. والأنهار تتدفق من هضباتها وجبالها إلى السهول العامرة وهيأ ذلك أسباباً لنشؤ المجتمع الإنساني الأول فيها ، فظهر الإنسان الأول ، وتطورت العلاقات الاجتماعية والقوانين فظهرت الأسرة والقبيلة ، وظهرت الديانات والأنبياء والرسالات الأولى ، وبدأ التاريخ الإنساني يكتب صفحاته وفصوله الأولى في هذه الأرض المباركة.

 

 

اليمن :  الأرض    ..   الإنسان    ..   التاريخ.

أولاً :اليمن :الأرض

 

تقع اليمن ضمن المنطقة المدارية بين دائرتي عرض  12.08 ْ/20ْ شمالاً، وتبعد 12ْشمال خط الاستواء ، وتتنوع مظاهر السطح أي التضاريس تنوعاً واضحاً رغم صغر مساحة اليمن (الحالية) على النحو التالي:

  أولاً/ السهل الساحلي:  ويمتد الجزء الأول منه من الشمال من إقليم عسير إلى باب المندب جنوباً ، ويطلق على هذا الجزء : سهل تهامة .. وهو يتسع ما بين 30-60 كم ، وهو صحراء في الغالب ، وتنتشر فيه الكثبان الرملية شحيحة الأمطار مع ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة .. لكن الطقس يتحسن كلما اتجهنا إلى الداخل قريباً من أقدام الجبال حيث توجد أودية : سردود ، مور ، رماع وزبيد.

ويمتد الجزء الثاني من السهل الساحلي من باب المندب حتى حدود عُمان ، وهو يحاذي خليج عدن والبحر العربي و يطلق عليه : تهامة الجنوب.

ثانياً/ المرتفعات الجبلية : ويتراوح ارتفاع الجبال فيها ما بين 1400-2700م ، والحرارة فيها منخفضة ، والرطوبة قليلة لا تتجاوز 45% والأمطار غزيرة ، وتوجد فيها سلسلة أحواض وقيعان مستوية مثل: قاع صعدة ، قاع البون ، قاع صنعاء ، وقاع جهران ومن الأودية : وادي بيحان ، وادي الجوف ووادي شبوة.

ثالثاً/ المرتفعات العليا: ويزيد ارتفاع الجبال فيها عن 2700متر مثل قمة جبل النبي شعيب التي يبلغ ارتفاعها 3760 متراً، وقمة جبل صبر التي يبلغ ارتفاعها          3006 أمتار ، وجبال نعمان والليسي في البيضاء وذمار، وجبال الطيال في صنعاء.

رابعاً / الهضبة الداخلية : وهي تقع شمال شرق المرتفعات العليا ومتوازية معه، وتشمل محافظات : مأرب ، الجوف ، شبوة ،حضرموت والمهرة.

خامسا: الصحراء الشرقية: وهي تقع شرق الهضبة الداخلية ، وتمتد شرقاً حتى تندمج في صحراء الربع الخالي .. ويفصل الصحراء عن المرتفعات الداخلية مجموعة الأودية الجافة: وادي حريب ، منخفض وادي الجوف ومنخفض رملة السبعتين.

 

 

ثانياً / اليمن:الإنسان والتاريخ.

مـهـــــد الـــــعـرب..

في الجزء الجنوبي من جزيرة العرب تمتد أرض ( اليمن ) .. وإن كان هناك اختلاف في مدلول ( اليمن ) وحدودها الطبيعية ، فاليونانيون كانوا يسمونها ( العربية السعيدة) و يقصدون بها كل أرض الجزيرة وشبه جزيرة سيناء . وأكثر المؤرخين العرب يحددون بأن ( اليمن ) تاريخيا هو الجزء الجنوبي من جزيرة العرب ، ويشمل ذلك:

-      حضرموت .

-       عُمان .

-       إمارات جنوب الخليج ومكة المكرمة.

بالإضافة إلى الأرض المعروفة الآن باسم (اليمن) .

ومعظم القبائل في هذه المناطق تنتسب إلى ( قحطان بن هود ) . وفي كل الأحوال كانت ( اليمن ) تمتد في بعض الأحيان حتى مناطق شاسعة بعيدة تختلف عما تحدد في بعض فترات التاريخ التالية.

وفي هذا الجزء الجنوبي من جزيرة العرب .. وفي ذلك التاريخ الموغل في القدم ، شهدت ( اليمن ) تطورات إنسانية تمثل قصة البشرية في مراحلها الأولى ، فعلى أرضها جرت قصة ( آدم ) أبي البشر عليه السلام وفي منطقة ( جدة ) يقال أن هناك قــبر زوجته ( حواء ) أم البشر ، ومن بعدهما شهدت أرض اليمن أحداثاً تاريخية هامة حيث جرت أحداث قصة نبي الله نوح - عليه السلام مع قومه الذين تركوا دين التوحيد واتخذوا أصناماً آلهة من دون الله الواحد الأحد .. وتدل أسماء تلك الأصنام كما ذكرها القرآن أنها أسماء عربية يمنية ( وداً وسواعاً ويغوث ونسراً ) وهذا يدل على أن أحداث بداية التاريخ الإنساني جرت فصولها في أرض اليمن والعرب.

ومن بعد قصة نوح عليه السلام والطوفان .. تبرز قصة ابنه ( سام بن نوح) في اليمن أيضاً ، ومن نسله خرجت أطوار جديدة من بني الإنسان أي الساميين العرب، والذين يرى كثير من المؤرخين أنهم عاشوا في اليمن مثل ( العمالقة وعاد الأولى ) وهؤلاء منهم من استقر في اليمن ومنهم من نزحوا إلى العراق والشام وأفريقيا الشرقية ومصر وشمال أفريقيا .. ولــذلك أطلق المــؤرخون على اليمن لـقب (مهد العرب ). فبلاد العـرب هي الموطن الأصلي للساميين .. واليمنيون ينتمون إلى الجنس السامي وأشهر الأقوام السامية :العرب ، البابليون ، العبرانيون ، الفينيقيون ، الآراميون والسومريون .

وأرض هذه الشعوب السامية هي بلاد التاريخ الإنساني الأول ، وبلاد الحضارات القديمة .. وفيها ظهرت الديانات السماوية .. ونزلت الرسالات والكتب .. وعاش الأنبياء والرسل الذين منحوا التاريخ الإنساني أعطر وأعظم وأسمى صفحاته .

هؤلاء هم العرب

مرّ ( العرب ) بثلاثة أدوار كان لليمن قسط عظيم فيها:

أ‌-          العرب العاربة ( البائدة ) : ومنهم ( العمالقة ) ،عاد الأولى والثانية ، ثمود، جرهم الأولى والثانية ، قحطان ويعرب ، وعُمان وحضرموت .

وأول ما ظهر العرب العاربة في اليمن ، واستقر بعضهم فيها، وبعضهم نزح من اليمن إلى إفريقيا الشرقية ، وإيران ، والشام ، والعراق وهؤلاء الأخيرون هم أسلاف السومريين والكلدانيين الذين ظهروا في تلك البلاد وأقاموا فيها حضارات عظيمة.

وعلى الرغم من أنه لا توجد آثار مادية من تاريخ العرب العاربة وأخبارها ، إلا أنهم كانوا معروفين بالقوة الجسمانية والعسكرية والحضارية والاقتصادية وورد في القرآن الكريم آيات عديدة تدل على ذلك كقوله تعالى عن عاد الأولى الذين استخلفهم الله بعد نوح عليه السلام أنهم قالوا : " من أشد منا قوة " أثناء مواجهتهم مع نبي الله هود عليه السلام - .. كما وصفتهم آيات القرآن بأنهم ( وإذا بطشتم بطشتم جبارين ، فاتقوا الله الذي أمدكم بما تعلمون ، أمدكم بأنعام وجنات وعيون .) . وقال عنهم القرآن أيضاً  ( ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد ؟ إرمَ ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ) .

كان ظهور عاد كما تقول بعض الروايات التاريخية قبل ميلاد المسيح عيسى عليه السلام بقرابة سبعة آلاف عام وانتهوا قبل مولده بألفي عام بعدما ضرب الجفاف أرض الأحقاف فتحولت إلى صحراء رملية .. وبعد هلاك عاد الأولى جاء من نسلهم عاد الثانية التي لا يوجد حولها روايات كثيرة ، ويبدو أنهم عاشوا حتى الألف الخامسة قبل ميلاد المسيح حتى غلبهم ( يعرب بن قحطان ) .

ومن العرب العاربة قوم ( ثمود ) الذين ظهروا قبل عهد إبراهيم عليه السلام- وقيل إنهم سكنوا في البداية بالجنوب الشرقي من اليمن بين عسير وحضرموت ثم انتقلوا ونزحوا إلى الشمال واستقروا بوادي أو مدائن صالح والحجر .. واتخذوها موطناً لهم وشادوا فيها آثاراً تدل على قوتهم ونبوغهم حتى قال عنهم القرآن الكريم :             " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " فكان لديهم العلم والخبرة بتقطيع الصخور والجبال وبناء القصور الضخمة التي ما تزال آثارها باقية حتى الآن.

ب- العرب المتعربة (القحطانيون): ونشأ بعد تلك الأقوام القديمة ( القحطانيون ) العرب المتعربة بعد هلاك عـاد وبقايا العمالقة ، وهـم أسلاف عاد فيمـا يقال و( قحطان ) هو ابن هود عليه السلام ، ومن سلالته ( يعرب ) وهو الذي بدأ مسيرة القحطانيين وبسط نفوذه في جزيرة العرب، وهـو أول من هذّب اللغة العربية في زمنها الثاني ( العرب المتعربة ) ، كما قال الإخباريون ، ونسبت العربية إليه واشتقت من اسمه، وهو أول من حياه العرب بتحية الملك ( أبيت اللعن وأنعم صباحاً ) .

وبعد أن بسط ( يعرب بن قحطان ) نفوذه في الجزيرة العربية ، ولّى أشقاءه على مناطقها:

فولى أخاه ( جرهم ) على الحجاز ، وولى أخاه ( عُمان ) على منطقة ( عُمان) التي سميت باسمه، وولى أخاه ( عامر ) الملقب بـ(حضرموت ) على منطقة حضرموت التي سميت باسمه كما يقال لأنه كان مغواراً كثير القتل في المعارك فإذا حضر معركة يقولون:حضرموت .

  وإلى ( يعرب بن قحطان ) ترجع أنساب القبائل اليمنية ومنهم: المعينيون ، السبئيون ، كهلان ، وحمير .. وبقيادة يعرب تغلب القحطانيون على اليمن وسادوا فيها بعد أن تكاثر عددهم واشتد ساعدهم حتى جاء عهد ( يعرب ) الذي مكن لهم من السيادة على من عداهم من بقايا العمالقة والعاديين.

وجرهم الأولى ثم الثانية ، استوطنوا الحجاز بمنطقة مكة قبل قدوم إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام ، وقد نشأ إسماعيل عليه السلام بين الجرهميين  وتـزوج منهم ، وأخـذ العـربية عنهم فصارت لسـان أبنائه العــدنانيين وهـم (العرب المستعربة ) .

ج- العرب المستعربة: وهم الذين استوطنوا الجزيرة العربية وتزاوجوا مع العرب  الجرهميين وأطلق عليهم (العدنانيون).

 

عهد الدول اليمنية قبل الإسلام

يعود تاريخ وجود حضارة يمنية راقية إلى القرن العاشر قبل الميلاد ، على أقل تقدير، وهي حضارة (سبأ ) المشهورة ، وهو (سبأ بن يشجب بن يعرب ) ، وتعد حضارة (سبأ) أهم وأكثر مراحل الحضارة اليمنية القديمة ازدهاراً وذكراً في التاريخ الإنساني .. ارتبط اسمها بـ ( سد مأرب ) الشهير ، ووصفها القرآن الكريم بأنها" بلدة طيبة ورب غفور " ، وقال عن حضارتها : ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية : جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له) .

ويبدو من خلال بعض الآثار والأخبار القديمة أن الدول اليمنية القديمة تجاورت مكانياً وزمانياً ، وحكمت بعضها بعضا أو شملتها بنفوذها فـ ( معين وسبأ ) كانتا متجاورتين ، وبعض الأخبار تقول إنهما اسمان لمرحلتين متتاليتين من دولة واحدة .

استوطن السبأيون أرض مأرب وكانت دولتهم تمتد لتحكم مناطق أخرى ، وفي بعض الفترات حكمت اليمن كلها، واستمدت ( سبأ ) قوتها من سيطرتها وتحكمها بالطرق التجارية وأهمها الطريق التاريخي الشهير المعروف بـ (طريق اللبان) ، فقد كان اللبان من أنواع الطيوب الغالية المرغوبة في بلدان الشرق القديم وبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط .. وكان أجود أنواع اللبان يأتي من اليمن، وكانت أهم مناطق نموه في أواسط بلاد المهرة وظفار ، وقد أدت تجارة اللبان إلى نشوء حركة تجارية واسعة ازدهرت بسببها مملكة (سبأ ) .

وفي القرن الخامس قبل الميلاد بدأت بعض المناطق في الخروج عن سيطرة مملكة (سبأ ) الأم وتكوين دول مستقلة دخلت في منافسة مع (سبأ ) ذاتها ، وشاركتها نفوذها السياسي والاقتصادي ، وبرزت تلك الدول مع مرور الزمان مثل:معين ، وقتبان ، وحضرموت.

برزت دولة ( معين ) في منطقة (الجوف) ، وتمكنت من السيطرة على طريق اللبان التجاري بمساندة حضرموت وقتبان ، وكانت عاصمتها الدينية (براقش) وعاصمتها السياسية ( قرناو) .. وتوسع المعينيون شمالاً و أقاموا مستوطنات على طرق التجارة ما بين نجران والبحرين شرقاً، وعلى الطريق ما بين نجران وغزة غرباً ، وتوسعت علاقاتهم التجارية مع البلاد الأخرى مثل: مصر وفلسطين واليونان كما هو الحال مع أبناء عمومتهم : السبأيين والحضارمة والقتبانيين.

وتخلصت (قتبان)في الفترة نفسها من سيطرة مملكة سبأ، وكانت عاصمتها (تمنع) في أرض وادي بيحان ، وبرزت في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد ، وتميزت قتبان   رغم أنها من الدول اليمنية الصغيرة بنشاط زراعي واسع وكبير ، فازدهرت مشاريع الري في الوديان ، وشق القنوات الطويلة ، والآبار والسدود وجمعوا بين النشاط الزراعي والنشاط التجاري بسبب موقعهم على طريق اللبان فحصدوا ثروات هائلة، وسنوا شرائع وقوانين لتنظيم أحوالهم الاقتصادية.

وأما (حضرموت) فقد كانت تابعة لمملكة (سبأ) ثم صارت مواليه لها ، وعندما ضعفت مملكة (سبأ) انفصلت (حضرموت) كغيرها من الدول اليمنية الصغيرة وكونت دولة مستقلة كانت عاصمتها ( شبوه) . وقد ازدادت أهمية وقوة دولة (حضرموت) بسبب هيمنتها على أرض اللبان في (ظفار).

عصر الضعف والتجزئة

منذ القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد تكرست الفرقة في اليمن بظهور عدد من الدول في زمن واحد هي: سبأ ، قتبان ، معين ، حضرموت ، ثم حمير ، وبدأ اليمنيون يهملون الزراعة اعتماداً على المكاسب الهائلة التي كان يدرها النشاط التجاري ، وقد تعرضت الممالك اليمنية إلى ضربة شديدة بعد أن نجح (البطالمة) في مصر من التوصل إلى أسرار الملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي فانتقل الطريق التجاري من البر إلى البحر ، واتجه البطالمة للتجارة بحراً دون وساطة اليمنيين مما أضعف من قدراتهم وأضعف من هيبتهم بين الأمم.

أدت حالة الضعف الاقتصادي والسياسي إلى تنشيط الأطماع الخارجية للاستيلاء على اليمن ، فكانت أول حملة أجنبية للاستيلاء على أرض اللبان والطريق البري هي حملة ( أليــوس جــاللــوس ) الـرومانية التي انتهت بالفشل عند أسوار مأرب عام 24ق.م، وفي السياق  نفسه بدأت القبائل البدوية المتنقلة في الصحراء تعاني من ضعف وارداتها التجارية بسبب ما تعرضت له التجارة اليمنية بعد انتعاش التجارة البحرية ، فأخذت تلك القبائل تهاجم المحطات التجارية والمدن مما أدى إلى هجرة سكان الوديان على أطراف الصحراء حيث كانت مراكز الحضارة واللجؤ إلى المرتفعات الداخلية للاحتماء بها ، وقد أدى ذلك إلى بروز دولة (حمير) ونمو قوتها بسبب سعيها للاستفادة من انتعاش التجارة على البحر الأحمر حيث أقام الحميريون موانئ وبنوا أسطولاً ، وأسسوا عاصمتهم (ظفار) في قلب المرتفعات اليمنية بعيداً عن الصحراء والقبائل المتمردة.

شهدت تلك الفترة ازدهار مدن الهضبة  اليمنية في القيعان بعد أن كانت الحضارة والازدهار متركزة في مدن الوديان الشرقية ، كما شهدت تلك الفترة ازدياد سلطة (الأقيال) بعد أن ضعفت هيبة السلطة المركزية في (مأرب) ، وبدأ الأقيال ينازعون السلطة التقليدية في ( مأرب) سلطتها ويتنافسون على لقب (الملك)، وانتشرت حالة الضعف في الدول اليمنية المتعددة وتعرضت للاضمحلال والضم في القرن الأول قبل الميلاد ، فقد انتهت دولة معين في القرن الثاني قبل الميلاد بعد أن ضمت إلى (سبأ) ، وضعفت (قتبان) بسبب منافسة (حضرموت) لها والتي ضمت ما تبقى من قتبان إليها في القرن الأول قبل الميلاد قبل أن تنتهي حضرموت نفسها في القرن الثاني الميلادي .

وفي هذه المرحلة برزت دولة (أكسوم) في الحبشة ،وهي الدولة التي قامت نتيجة وجود استيطان يمني هناك دام قروناً ، وازدهرت (أكسوم) مع انتعاش الملاحة والنشاط التجاري في البحر الأحمر ، ودخلت (أكسوم) في صراعات وتحالفات مع حكام اليمن حسب الظروف والعلاقات بين الطرفين .

أدت مرحلة الضعف والتجزئة إلى بروز اتجاه قوي لإعادة توحيد السلطة وإقامة دولة مركزية واحدة ، وقام بهذه المحاولة ( شعر أوتر بن علهان نهفان ) الذي حمل لقب ( ملك سبأ وذي ريدان ) واتخذ (مأرب) عاصمة له ، ومدّ نفوذه إلى مناطق عديدة منها حضرموت في أواخر القرن الثاني الميلادي ، وفي منتصف القرن الثالث الميلادي حاولت ظفار ومـأرب توحيد قـواهما ضــد الحبشة وتوحيد السلطة أثناء عهد الملك الشهير (إل شرح يحضب ).

وفي أواخر القرن الثالث الميلادي استطاع ( شمر يهرعش بن ياسر يهنعم ) أن يوحد سبأ وحمير في دولة واحدة ، وأقام حكماً مركزياً قوياً وحمل لقب ( ملك سبأ وذوريدان وحضرموت ويمانة ) وكانت عاصمته ظفار .

وفي مطلع القرن الخامس الميلادي برز اسم الملك (أسعد الكامل) الذي اتسع ملكه حتى وصل إلى وسط الجزيرة العربية ، وكان (اتحــاد كنده) مملـكة تابعة له وزار (أسعد الكامل) يثرب واعتنق اليهودية،ومر بمكة وكسا الكعبة المشرفة.

وفي تلك الفترة بدأ اليمنيون يهجرون عبادة الأوثان التي كانت منتشرة بكثرة، فمنهم من اعتنق اليهودية .. ومنهم من اعتنق النصرانية.

وكان سد مأرب الشهير يتعرض في العادة إلى تصدعات ومشاكل لأسباب متعددة كالسيول الكبيرة القوية الناتجة عن الأمطار الغزيرة والفيضانات ، كما تعرض للتصدعات بسبب الزلازل والإهمال وعدم الاهتمام بسبب ضعف السلطة المركزية ، وكان اليمنيون قد اعتادوا على أن يهبوا لإصلاح السد ويتعاونوا على ترميم ما تهدم منه بدعم السلطة المركزية ، لكن سد مأرب في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي انفجر انفجاراً كبيراً كان خارقاً للعادة وكارثة كبيرة هدمت معظم بناء السد وجرفت منشآت أرض الجنتين ، وشلت نظام الري بأكمله ، فتبدلت صورة الحياة تماماً ، وساد الجفاف والقحط والفقر النباتي ، وهجر اليمنيون أرضهم وتفرقوا أيادي سبأ.

كان آخر ملوك حمير ( أسار يثار ) المشهور بذي نواس ، وكان قد اعتنق اليهودية، واشتبك ذو نواس مع النفوذ الحبشي المتعاظم في اليمن في معارك طاحنة هزمهم فيها في البداية ، وأحرق كنائسهم ، وطاردهم في كل مكان ، كما اشتبك مع اليمنيين الذين اعتنقوا النصرانية وأحرقهم في الأخدود كما جاء في الرواية التاريخية الشهيرة.

انسحب (الأحباش ) بعد هزائمهم ليعودوا بعد سنوات غازين لليمن ، وبمساعدة الإمبراطور الروماني هزموا ( ذو نواس ) واحتلوا اليمن عام 525م. وانفرد أحد القادة الأحباش بالحكم في اليمن وهو (أبرهة) وأطلق على نفسه لقب (الملك) ، وحارب القبائل المتمردة وأخضعها لسلطانه ، وسعى لمد نفوذه في جزيرة العرب ، وقاد الحملة الشهيرة لهدم الكعبة المشرفة في مكة لتعزيز نفوذه السياسي والديني بين العرب ، لكن حملته انهزمت على مشارف مكة بعد أن أرسل الله تعالى الطير الأبابيل على جيش أبرهة فأهلكته ودمرت جيوشه.

استعان أحد القادة اليمنيين الذي اشتهر باسم (سيف) وهو من عائلة (ذي يزن)  بالفرس لطرد الأحباش من اليمن ، وتمكن بمساعدة قوات فارسية أرسلها كسرى من تقويض نفوذ الأحباش وطردهم من اليمن .

وبعد موت الملك (سيف) استفحل النفوذ الفارسي ، وقام الملك الساساني كســرى الثاني ( برويز ) بتحويل اليمن إلى ولاية فارسية و عين عليها والياً فارسياً في نهاية 598م.

 

اليمن في ظل الإسلام

لم تكن اليمن بعيدة عن التطورات التي شهدها قلب الجزيرة العربية بظهور الرسالة السماوية الخاتمة وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم  - برسـالة الإسلام الخالدة .. وجذب الدين الجديد اهتمام أفراد من اليمنيين الذين ذهبوا إلى موطن الرسالة واعتنقوا الإسلام ثم عادوا إلى قبائلهم ومناطقهم يبشرون بالإسلام وتوالى دخول اليمنيين في الدين الجديد حتى كان عام الوفود سنة 9هـ عندما جاءت وفود القبائل والمناطق اليمنية ومن ملوك حمير وأعلنت اعتناقها للإسلام ، وأرسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  - معها عدداً من الصحابة ليعلموهم الإسلام .

وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  - شهدت اليمن ارتداد عدد من الشخصيات اليمنية ، كما كانت اليمن قد شهدت فتنة (الأسود العنسي) قبيل وفاة الرسول     صلى الله عليه وآله وسلم  - وبعد أن هدأت الأوضاع بالقضاء على فتنة الردة في بداية عهد الخليفة أبى بكر الصديق ، انخرط اليمنيون في حركة الفتوحات الإسلامية في العراق والشام ثم في سائر البلدان.

وعندما اندلعت أحداث الفتنة في نهاية عهد الخليفة عثمان بن عفان وعهد الخليفة علي بن أبى  طالب رضي الله عنهما انقسم اليمنيون بين الطرفين ، ولم تحسم الأمور إلا بعد استشهاد الإمام علي وتنازل الحسن بن علي في أمر الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان فيما سمي عام الجماعة.

وفي عهد الدولتين الأموية والعباسية ظل اليمن مرتبطاً بعاصمة الخلافة (دمشق) ثم (بغداد) .. وشهدت اليمن ازدهاراً للثقافة العربية والإسلامية .

وفي العام (203هـ) اضطربت الأوضاع في اليمن فأرسل الخليفة العباسي (المأمون ) الأمير محمد بن عبدالله بن زياد الذي استقل بحكم اليمن بعد أن ضعفت الخلافة العباسية في (بغداد) وضعفت سيطرتها على أطراف الدولة ، وازداد نفوذ الأمير ابن زياد وأسس إمارة قوية مزدهرة امتد نفوذها على ساحل البحر الأحمر إلى عدن وحضرموت والجند وإب ، وعرفت هذه الدولة باسم الدولة الزيادية ، وفيما بعد انتقلت السلطة إلى عدد من  وزراء الدولة الزيادية ، وتمكن واحد منهم يدعى نجاح من الانفراد بالسلطة وتأسيس حكم دولة ( بني نجاح) .

وبالتزامن مع حكم الزياديين كانت هناك دويلة بني يعفر (الحواليين ) في صنعاء وشبام وتحالفت مع دولة الأئمة الزيديين الأولى في (صعدة).

وفيما بعد ، قضى الصليحيون على دولة الأئمة الزيديين وغيرها من الدويلات.. وتم للمكرم علي الصليحي إحكام السيطرة على اليمن وتوحيدها من الحجاز شمالاً حتى عُمان في الشرق ، وعندما حل الضعف بدولة الملكة ( سيدة بنت أحمد ) استقل بعض ولاتها بالحكم على النحو الأتي:

          أ        بنو زريع في عدن.

ب‌-         بنو الضحاك (الهمدانيون) في صنعاء.

ت‌-          بنو مهدي ( الهمدانيون) في زبيد.

ث‌-          كما عاد نشاط الأئمة الزيديين.

وفي الفترة نفسها جاء الأيوبيون (532هـ ) إلى اليمن ، وخلال ستين عاماً قضوا على تلك الدويلات وتصالحوا مع الأئمة.

وفي عام (626هـ) أسس والي الأيوبيين على اليمن الأمير (عمر بن رسول) الدولة الرسولية التي حكمت أكثر من قرنين وازدهرت فيها الحركة الفكرية والعمرانية ، ثم ورثهم عمالهم من بني طاهر حتى قضت عليهم الحملة المملوكية القادمة من مصر والتي أعلنت ولاءها للسلطان العثماني (سليم) بعد دخوله القاهرة وضم مصر للدولة العثمانية .

وفي عام (943هـ) جاء العثمانيون إلى اليمن ، واستولوا على (عدن) و(زبيد)، وعينوا واليا عثمانياً لحكم اليمن لمدة قرن لكنهم عانوا من عدم الاستقرار ومقاومة الأئمة الزيديين و خاصة بعد ثورة الإمام القاسم بن محمد عام 1045هـ . وبعد خروج العثمانيين عادت الوحدة بين المناطق اليمنية من الحجاز حتى عُمان تحت حكم الأسرة القاسمية.

وفي مرحلة لاحقة عاد الصراع بين المتنافسين على الإمامة مما سهل للعثمانيين العودة إلى اليمن عام 1849م بعدما عمت الفوضى أرجاء اليمن ، وبعد أن احتل الانجليز (عدن ) عام 1839م .. لكن الوجود العثماني انحصر في الساحل التهامي ، وعانى الأتراك كثيراً عند محاولتهم توسيع سلطتهم شمالاً لكنهم تمكنوا من دخول صنعاء عام 1872م وجعلوها مركز ولاية اليمن.

وفي السنوات الأخيرة  من القرن التاسع عشر الميلادي تجددت المقاومة ضد العثمانيين بقيادة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين ثم ابنه الإمام يحيى حميد الدين الذي حاصر صنعاء  ودخلها عام 1905م.

وفي عام 1911م تم توقيع اتفاق ( دعان ) بين الإمام يحيى والقوات التركية ، وتم الاعتراف بالسلطة الدينية للإمام في المناطق التي سيطر عليها . وبعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى (1914م-1917م) صار الإمام يحيى هو الوريث الشرعي لتركيا في اليمن وفق الاتفاقات الدولية المعقودة بعد الحرب ، وطوال السنوات التالية عزز الإمام يحيى حميد الدين سلطته في المناطق التي حكمها وعرفت باسم المملكة المتوكلية اليمنية ، وتحولت الإمامة إلى نظام فردي مستبد يحكمه الإمام يحيى وأبناؤه ، وتحولت البلاد إلى مملكة مغلقة يعاني شعبها من التخلف والجهل والمرض والمظالم مما أدى إلى ظهور حركة معارضة في الثلاثينيات قادها علماء ومثقفون وشخصيات سياسية من داخل نظام الإمام يحيى نفسه ، ووصلت المعارضة إلى ذروتها بقيام ثورة 1948م التي أقامت نظاماً دستورياً بعد مقتل الإمام يحيى لكن الثورة فشلت بعد 3 أسابيع فقط بعد أن نجح ولي العهد والابن الأكبر للإمام أحمد بن يحيى من  تأليب القبائل ضد النظام الجديد في صنعاء حتى تم إسقاطه ، وتم استباحة صنعاء لمدة ثلاثة أيام ، واعتقال معظم رجال الثورة الدستورية ولقي العديد منهم مصرعهم في ساحات الإعدام ،وقضى الآخرون سنوات طويلة في سجون الإمام الرهيبة .

استمر نظام بيت حميد الدين في الحكم وتخللت حكمه عدة انتفاضات والتي منها حركة 1955م وحركة القبائل 1959م  حتى اندلاع ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م ، وإعلان قيام النظام الجمهوري باسم الجمهورية العربية اليمنية ،ولقي النظام الجديد بقيادة الزعيم عبدا

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp