تحديات كبرى في ذكرى رحيل حكيم اليمن * عبدالقوي ناجي القيسي

تمر علينا الذكرى السنوية الثانية لرحيل حكيم اليمن الشيخ/عبدالله بن حسين الأحمر (رحمه الله) ونحن في مفترق طرق ومنعطفات خطيرة وخيارات صعبة ومعقدة.

ولا شك أن وجود الشيخ عبدالله (رحمه الله) كان سيشكل عاملاً إيجابياً لتجاوز تلك الهموم ومحفزاً هاماً لاتخاذ القرارات اللازمة لوضع المعالجات الممكنة لها. لقد ترك رحيله فراغاً كبيراً في الساحة الوطنية وجعل اليمن فعلاً أمام تحديات عديدة وفي مفترق طرق.

أما مفترق الطرق الذي وصلنا إليه فهو الانقسام المجتمعي الذي نعيشه والذي يتنامى يوماً بعد يوم ونحن لا ندرك آثاره المستقبلية المدمرة على النسيج الاجتماعي اليمني، إما لأننا نكابر ونرحل قضايانا ومشاكلنا المتفاقمة إلى أبنائنا ومن سيأتي من بعدنا في أنانية مفرطة وعدم مبالاة، أو لأننا قد فقدنا الإحساس وحتى القدرة على إدراك عواقب هذه الأمور مما يجعلنا نهوي سريعاً في مستنقع رهيب لا نعلم قعره أو قراره إذ لم يعد من المقبول اليوم تجاهل الدعوات المريضة التي تؤسس للمذهبية والطائفية من جديد بين أبناء الشعب اليمني كما أنه لا ينبغي غض الطرف عن الدعوات المناطقية التي تقزَم اليمن وتجعل كل فريق يحتمي بعشيرته ومناطقيته وينتهك الأعراف والقوانين ويسلب وينهب ثم يلقى الدعم والمساندة من قبيلته فتضيع الحقوق ويزدهر الظلم ويكثر الخارجون على القانون وما أكثرهم بالفعل.

إن ترك المناطقية تتغذى على ضعف أجهزة الدولة أمر بالغ الخطورة من أبرز نتائجها اتساع رقعة الكراهية وتفشي مرض الحقد الاجتماعي الذي سوف يقطع أوصال الوطن فيضيق بأبنائه وهو رحب.

لقد كنا نحسب أننا قد تجاوزنا في الفترة الماضية أمراضاً إجتماعية مثل هذا زيدي وهذا شافعي وهذا سيد وهذا قبيلي وهذا حاشدي وهذا بكيلي وهذا مذحجي وهذا حميري وإذا بنا اليوم نضيف لقاموس التقسيم الاجتماعي البغيض مفردات جديدة تنضح بالحقد والكراهية مثل الدحابشة والبراغلة والشماليين والجنوبيين ونبني عليها - مع الأسف - مواقفنا من القضايا الوطنية.

وحري بنا ونحن في مفترق الطرق هذا أن نتذكر مواقف المرحوم الشيخ عبدالله الذي كان يكره كل هذه المسميات ويحاربها دون ضجيج فقد كان (رحمه الله) زيدياً شافعياً وقبلياً هاشمياً وحاشدياً بكيلياً وشمالياً جنوبياً، تحدثنا عن ذلك صلات الأرحام المتنوعة التي نسجها بتزويج أو الزواج من أفراد هذه الأطراف كلها ليقضي على تلك التقسيمات والتصنيفات المجتمعية الجاهلية المقيتة التي أضعفت عرى اليمنيين وكانت من أسباب تخلفهم عمن حولهم.

وأما المنعطفات الخطيرة التي نمر بها فهي القضايا الساخنة التي تهدد الوطن بأكمله من حرب دموية في صعدة عواقبها وخيمة وأثارها الحالية والمستقبلية مدمرة. هذه الحرب العبثية فعلاً والتي تمهد لانفصال على أساس مذهبي هو أخطر بكثير من الإنفصال المناطقي وسيكون وبالاً على اليمن وأهله.

لقد أدرك المرحوم الشيخ عبدالله مبكراً هذه الأبعاد وبذل جهوداً كبيرة لاحتواء مشكلة صعدة ووضع المعالجات الحاسمة للقضاء على الفتنة، غير أن عنجهية الدولة واتكائها على القوة العسكرية المفرطة قد أغلق الباب أمام تلك المحاولات وكان دور مؤسسات الدولة من برلمان وحكومة ومجلس شورى باهتاً في هذا الجانب حتى وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم.

وعلى الصعيد ذاته لا تزال أدخنة الحراك في الجنوب ترتفع في السماء وتلبد أجواء الوطن بغيوم تحمل في طياتها نذر الشؤم ومعاول الهدم والرغبات المريضة في تقسيم اليمن الموحد وجره إلى المزيد من التبعية والارتهان للقوى الدولية ومن ثم تعدد الولاءات مما يشكل تهديداً كبيراً وحقيقاً لمستقبل اليمنيين ويضيع عليهم فرص الاستقرار والأمن والبناء والتنمية ويجعلهم في دوامة تستفرغ كل طاقاتهم وقدراتهم وتجعلهم عالة على غيرهم بدلاً من أن يكونوا أمة واحدة قوية صاحبة مشروع حضاري نهضوي متميز على غرار تركيا وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية أو على الأقل قريبين من سلطنة عمان التي عالج سلطانها الحكيم الكثير من التحديات منذ بداية حكمه وأشرك الجميع في البناء والتنمية وحالهم اليوم يعبر عن نفسه ولا يحتاج إلى شهادة من أحد.

حقاً إننا نمر اليوم بمنعطفات خطيرة لو تجاهلناها أو أدرنا لها ظهورنا بمكابرة لدفعنا جميعاً الثمن غالياً أكثر مما ندفعه الآن ولاكتوى بنيرانها الجميع ولسوف يلعن التاريخ كل صاحب مسئولية بدون استثناء خاصة أولئك الذين هم قادرون اليوم على عمل شيء لكنهم ممسكون أيديهم لحسابات خاطئة جداً وتقديرات عقيمة وهم في حقيقة الأمر غارقون في أوهامهم ومصالحهم تقودهم أنفسهم التي تأمرهم بالسوء ومن هؤلاء القوى المنتفعة في الحزب الحاكم الذين لا يحسنون صنعاً ولا يجيدون غير تقطيع عرى المحبة والأخوة بين أبناء الوطن وهم ورغم الأوضاع السيئة التي نعيشها شاهري سيوفهم ضد المعارضة يريدون تحميلها أوزارهم التي اقترفوها في معادلة غريبة عجيبة لا يفهمها كل ذي عقل راجح.

ورحم الله الشيخ عبدالله الذي استمع عام 96م وأثناء زيارته لبعض المحافظات الجنوبية- وكنت معه- إلى مشاكل الناس وما يهدد وحدة الوطن ويعمق الكراهية بين الشمال والجنوب وقصص الظلم العديدة وحكايات البسط الجنوني على الأراضي في عدن وحضرموت وغيرها وكذا سوء إدارة بعض المسئولين الشماليين للمحافظات الجنوبية وسوء أخلاق بعض المسئولين الجنوبيين الذين ركزتهم السلطة بعد الحرب في مناصب تنفيذية وقد نقلها المرحوم بأمانتها إلى الأخ الرئيس لسرعة معالجتها ووضع حد لها قبل أن تستشري وحاول جاهداً إيصال الكثير من أصحاب القضايا والمظالم إلى الأخ رئيس الجمهورية للبت في قضاياهم وإنصافهم وإطفاء الفتن وهي في مهدها وقد نجح في بعضها ولم يتوفق في البعض الآخر مما يجعلنا اليوم نؤكد على ما حذر منه قبل أكثر من اثني عشر عاما وكيف كانت القوى المنتفعة في المؤتمر الشعبي العام التي أشار إليها الشيخ عبدالله (رحمه الله) في مقابلة مع صحيفة الحياة بتاريخ 3 فبراير 1996م تعطل تلك الجهود وترسم أمام الأخ رئيس الجمهورية صورة وردية عن الأوضاع في المحافظات الجنوبية وتوهمه بأن الشيخ عبدالله يتبنى أجندة بعض القيادات الإصلاحية الذين يبالغون في تقدير الأمور وقد تَعزَّزَ ذلك الاتجاه بشكل أخطر بعد انتخابات 1997م البرلمانية ونشوة الإنتصار الزائفة التي غمرت هؤلاء المنتفعين وكانت معظم نصائح الشيخ عبدالله الصادقة والمخلصة تفسر على غير مقاصده النبيلة والحريصة على مكتسبات الوطن مما جعل الشرخ يتسع ويتعمق ونحن اليوم نجني ثمار نصائح وخطط وبرامج الحمقى والحاقدين ولا ريب أن الذي يرى بعينين أفضل وأقدر على تمييز الأشياء من الذي يرى بعين واحدة.

كما أننا نواجه في الوقت الراهن خيارات صعبة ومعقدة كانت بالأمس أيسر علينا بكثير من اليوم وسوف تصبح غداً أكثر تعقيداً وستفرض علينا قرارات حاسمة وتضحيات كبرى قد لا تكون في متناولنا حينما يفرضها الواقع الذي يتردى أمام أعيننا وبشهادة الناس والقوى الإقليمية والدولية على حد سواء.

ونذكر على سبيل المثال موقف الشيخ عبدالله (رحمه الله) من الإصلاحات المالية والإدارية التي انطلقت عرجاء سنة 1995م والسبب في ذلك الانتقائية في التنفيذ حيث عمد المنظرون والفلاسفة في الفئة المنتفعة داخل المؤتمر الشعبي العام لإقناع الحكومة أن من الأفضل البدء بالإصلاحات المالية وترك الإدارية لمرحلة أخرى وقد حذر الشيخ عبدالله في حينه من خطورة ذلك النهج الذي - سيفجر الصنفور - على حد تعبيره لأنه يمس حياة الناس البسطاء ولا يكف أيدي المفسدين الكبار لكنهم مضوا فيه دون التفات للتحذيرات وقد كثر اللغط في حينه حول موقف الشيخ عبدالله الذي أوضح في تصريح لصحيفة الحياة اللندنية موقفه من الإصلاحات الاقتصادية بتاريخ 11/5/1996م، حيث قال: "جميع الناس يؤيدون الإصلاحات ولكن لا يصح أن تقتصر الإصلاحات على جانب دون آخر، والإصلاحات لا بد أن تكون شاملة الإصلاح المالي والإصلاح الإداري".

واليوم نقتات المر جراء سياسة الجرع التي ضاعفت معاناة الناس ورفعت نسبة الفقراء وأحدثت تدهوراً كبيراً في قيمة العملة الوطنية حتى وصلت قيمة الدولار إلى (207) ريالات وهو تقريباً الرقم الذي توقعه الدكتور محمد الأفندي عام 1996م عندما كان وزيراً للتموين وقوبلت تصريحاته بالغمز واللمز وأن كل شيء على ما يرام.

أمام المسئولين اليوم ملفات كثيرة بالغة التعقيد تحتاج إلى نوايا صادقة وأفعال لا أقوال لمواجهتها قبل أن ينفرط العقد فرغم هذا السوء والمستقبل المجهول وحالة الهلع العام في نفوس الناس إلا أنه لا يزال بالإمكان عمل شيء يعيد الأمور إلى نصابها وربما تكون الانتخابات الحرة والنزيهة هي المدخل الأساس لإشراك جميع أبناء الوطن في تحمل الأعباء والمسئولية والمساهمة الايجابية في البناء والتطوير. ورحم الله الشيخ عبدالله الذي استقرأ مستقبل البلاد حينما سألته صحيفة الوسط اليمنية بتاريخ 23/2/2005م عن مستقبل اليمن في ضوء معطيات الواقع وهل يأمل خيراً فكان رده "الأمل أمل خير، أما المؤشرات فهي مخيفة ونسأل الله السلامة".

 

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp