أخشى على اليمن بعد رحيلك يا شيخ عبدالله *الشيخ/فيصل بن عبدالله مناع

  نعم عرفت الشيخ عبدالله - رحمه الله - عن قرب وجمعتني به مواقف وأحداث ولا أظن أحداً رزي بموته مثلي واليمن ، أو هكذا إحساسي.

حضرت موقف للأخ الشيخ عبدالله - رحمه الله - وكان لقاء موسعاً مع مجموعة من السفراء الأجانب منهم سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية وسفراء كلاً من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا وبلجيكا ، وكان اللقاء في مكتبه - رحمه الله - في مجلس النواب ، حيث تحدث مع السفراء حديث عام عن قضية العرب والمسلمين الأولى قضية فلسطين وما يعانوه من الإحتلال والظلم والقهر وإزهاق الأرواح بصورة عبثية وخراب ودمار المنازل على أهلها ، وعاتب وأعاب على حكوماتهم هذا الإهمال والمجاملة والإنحياز إلى جانب إسرائيل ، وقبل نهاية شرحه قال: إذا كانت بريطانيا هي التي أوصلت إسرائيل إلى الأراضي العربية واعترفت بها كدولة في الأراضي الفلسطينية فإن أمريكا على مدى أكثر من ستين عام هي التي رعتها ودعمتها وساندتها بالمال والسلاح من البندقية إلى الطائرة إلى الصاروخ وهي التي دعمتها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالقرارات التي تخدم مصلحتها ، وإستخدام حق الفيتو على كل قرار يخدم مصلحة العرب والمسلمين ، وإن هذه المواقف لا تخدم مصلحة أمريكا وإذا استمرت وأصرت على ظلم العرب والمسلمين وقهرهم وإحتلال الأراضي الفلسطينية ، وإزهاق أرواحهم من جانب إسرائيل فرفعت السفيرة يدها مقاطعة وقالت: لا يمكن سكوتي على هذا الإتهام الصريح الموجه لحكومتي الولايات المتحدة الأمريكية ، وأقول بأنك يا شيخ عبدالله اتخذت موقف عدائي من أمريكا ، وأجاب الشيخ عبدالله بهدوء: بل موقفي موقف الناصح ، فإن تمسكت الولايات المتحدة بقناعتها بإسرائيل وضد قضايا العرب والمسلمين فإنها ستندم مستقبلاً ، وإذا كانت تطمئن وتركن إلى سكوت وإهمال ومجاملة القادة العرب والمسلمين فإنها ستخسر كل الشعوب العربية والإسلامية الذي تناصبهم العداء في قضاياهم ومقدساتهم ، وهذا موقف من ضمن المواقف التي تذكر بمحاسن وغيرة وحمية ووطنية وصدق ووفاء هذا الشيخ العظيم.

لقد كان الشيخ عبدالله - رحمه الله - رغم إنتمائه الشديد لقبيلته خصوصاً وقبائل ومشائخ اليمن عموماً يدافع عنهم ويهتم بقضاياهم ومشاكلهم وعندما يحدث أي مشكلة بين أسرتين أو قبيلتين إلا كانت مبادرته الأولى لحل المشكلة ، ولا تحدث أزمة بين أي قبيلة مع السلطات التنفيذية في أي محافظة إلا كانت المشكلة من أولى إهتماماته حيث يتواصل مع المشائخ والعقال تارةً ويتواصل مع مسئولي الدولة في المحافظة تارةً أخرى ، ويتابع القضية مع كل الأطراف حتى تخمد نارها وشرارها ثم يستريح.

كان يعمل دائماً على جمع كلمة المشائخ وقبائلم ووحدة صفهم والدفاع عنهم مع حرصه على نصيحتهم ودعوتهم للتعاون والتضامن مع مسئولي الدولة في تثبيت الأمن والإستقرار والحفاظ على الوحدة وتشجيع التنمية والإستثمار.

ومن المواقف التي يجب أن نذكرها للشيخ عبدالله والتي تدل على الثبات هو ما حصل في جبال الطويلة وعكوان وجبل أحسن فقد كان الشيخ عبدالله - رحمه الله - في صعدة وأثناء إشتداد المعارك ولا سيما على الجبال الشرقية المجاورة لصعدة إستطاع الملكيون مهاجمة قوات الثورة في جبال الطويلة وعكوان وجبل أحسن وهزموا قوات الثورة من حاشد وسحار والقوات المسلحة وحينما بلغ ذلك الشيخ عبدالله خرج من صعدة مع من معه من الناس حتى وصل إلى موقع يبعد خمسة كيلو من هذه الجبال وثبت في هذا الموقع وعندما سمع الجنود الذين انسحبوا وهم من حاشد وسحار والقوات المسلحة ، بأن الشيخ عبدالله ثابت لا يتزحزح عن هذه المواقع أحسوا بالخجل وعادوا أفراداً وجماعات واستعادوا نشاطهم ومعنوياتهم ، وفي المساء هاجموا المواقع واستطاعوا هزيمة الملكيين وإستعادة الجبال والمواقع المذكورة كاملة.

فلولا خروج الشيخ عبدالله - رحمه الله - من صعدة ومن معه ثم عودة الجنود أفراد وجماعات وإستعادة هذه المواقع لكانت صعدة والمطار قد وقعت في خطر عظيم ولأصبحت في متناول أيدي الملكيين ، هذا موقف من ضمن مواقف لا تحصى ولا تعد تسجل للأخ الشيخ عبدالله - رحمه الله - ثباته وعزيمته ورأيه السديد الذي حال دون إستيلاء الملكيين على المطار وصعدة.

كما أذكر موقف آخر محسوب للشيخ عبدالله - رحمه الله - يدل على حكمته ففي فترة من الفترات من معارك صعدة أيام الملكيين ، كانت معنويات الجيش الشعبي والقوات المسلحة مرتفعة بعد تصفية أكثر المناطق المحيطة بصعدة مما جعلنا وتحت تأثير الرغبة الجامحة أن نطرح على الشيخ عبدالله - رحمه الله - ضرورة التقدم على منطقة كتاف مع اللواء مجاهد أبو شوارب - رحمه الله - واللواء عبدالله دارس - حفظه الله - وأنا معهم عدة مرات وكان يرد علينا أن إمكاناتنا محدودة ورد الفعل من الجانب الآخر سيكون قوي وسيحصلون على دعم كبير ضدنا وستكون النتيجة في غير صالحنا ، ولكن إصرارنا مجتمعين جعل الشيخ عبدالله - رحمه الله - ينزل عند رغبتنا وتم الإعداد للتقدم على المنطقة الشرقية واستمرت المعارك يومين ودخلت القوات المسلحة والشعبية كتاف قبل الغروب.

وفي اليوم الثاني تم وصولنا جميعاً إلى مركز المديرية واستقبلونا المشائخ والقبائل وتغدينا في كتاف في ضيافتهم ثم عدنا إلى صعدة بعد أن رتبنا الأمور وتركنا ما يلزم من الجنود والمعدات في المركز للحفاظ على هذا المكسب والدفاع عنه ، ولكن مع الأسف بعد يومين تلقى العدو دعم غير محدود وهاجم المركز واستمرت المعارك يومين وعاد جنودنا من كتاف حتى حدودنا السابقة وكانت النتيجة كما توقعها الشيخ عبدالله - رحمه الله - وهذا أحد الأدلة على حكمته وسداد رأيه.

عرفنا الشيخ عبدالله - رحمه الله - دائماً صائب الرأي قوي الأعصاب ثابت الجأش لا يتزحزح ولا يخور ولا يستكين ولا سيما في الأمور التي تتعلق بالثوابت ومع ذلك لا يغضب ولا ينفعل حتى تضيع المواقف وتخرج من يده ولكن مع القوة والثبات يستلهم الحلم والمرونة والحكمة ويعالج أكبر القضايا بالطريقة المثلى التي لا تمس بالثوابت ولا تجرح الآخرين.

ويعلم الله أن قناعتي في السكوت والإكتفاء بما أحمل عنه من إنطباعات وتعابير غير منطوقة لأكثر إنصافاً لي وله من الحديث عنه بجمل مكتوبة لا أجيد سبكها ، ولولا الطلب ممن عَرَف قدر الشيخ عندي لما كتبت ، يمنعني من ذلك ما يمنع الصديق الصادق من التلفظ بأقوال تسهل على المخادع وقد وصف بهذه الأوصاف وغيرها من هو دونه بفراسخ وأميال فتأتي ألفاظ تفرق بين الجبل وسفحه وقد قيل في السفح أوصاف القمم.

عرفت الشيخ إنساناً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.

إن كان للدين والشريعة فهو المرجع ، وإن كان للأعراف القبلية والتقاليد اليمنية العريقة فهو المرجعية لم ينازعه في ذلك أحد ، وإن كان للقيم العربية الأصيلة والأعراف القبلية والتقاليد القبلية فهو المدرسة ، منها تخرج مشائخ اليمن الحديث في عهده ، وإن كان للوطنية اليمنية وثورتها ووحدتها فهو الفارس ، وهو الرجل الحكيم الذي لا يُستغنى عنه ، لم يستغني عنه أحد ممن تولى زمام الأمور في قيادة اليمن .

لم يكن ليتخلى عن الأخلاق في السياسة ولم يتحلى بالكذب في الدبلوماسية ، فقد حمل على صدام حسين في دخول الكويت ، ووقف معه حين حوصر وضرب ، لم تكن المسائل العظام لتشغله عن نصرة المظلوم ولا تفاصيل خلافات الناس تغرقه فتغيب عنه هموم الأمة.

لا أحسب أن أحد عرف قدره مبكراً وبنبوءة تحققت غير أبي الأحرار محمد محمود الزبيري - عليه رحمة الله - فقد أرسل إليه رسالة يقول فيها:

إنك يا شيخ عبدالله من سيحدد مصير اليمن ، وإنك ربما لا تشعر بالمكانة والمسئولية الملقاه على عاتقك لكنك أنت من سيحدد مصير اليمن.

وقد كان له ذلك ولمن عايش أحداث التغيير في اليمن أن يتأمل هل كانت الثورة ستنتصر بدون وقوفه معها ؟ هل كانت الجمهورية ستترسخ لو وقف ضدها؟ وهل كانت الوحدة ستتم لو لم يؤيدها؟

إن اليمن بفقدان الشيخ قد تغير ولن يكون اليمن هو ذاته اليمن بدونه ، إنما مظاهر التغيير تريثت في الظهور خضوعاً لزمنه الممتد إلى حين بعد رحيله ، وفي قادم الأيام ستتجلى قيمته لمن لم يكن قد عرف قدرها ، وسوف يستبين لكل وطني يمني أن الرجل هو هو اليمن الجمهوري الموحد.

أخيراً إذا كان لنا مواساة في فقدان هذا الرجل العظيم الحكيم فإن مواساتنا بوجود عشرة رجال من ظهره نرجو الله أن يصلحهم ويصلح ذات بينهم ويوحد صفهم وكلمتهم ويمنحهم النجاح والفلاح والصلاح والإصلاح والعون والتوفيق وأن يخطوا جميعهم خطواته ويعملوا عمله وينهجوا نهجه فقد قال الشاعر:

إنَّا وإن أحسابنا كرمت         لسنا على الأحساب نتكلُ

نصنع كما كانت أوائلنا تصنع ونفعل مثلما فعلوا

 

وأخشى على اليمن بعد رحيلك يا شيخ عبدالله.

والله المستعان وولي التوفيق..

والحمد لله رب العالمين..،،

 

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp