ورحل.. شيخ اليمن * ابراهيم العشماوي

   

صحيفة 26 سبتمبر 3/1/2008م

العدد 1366 - ملحق خاص برحيل الشيخ عبدالله الأحمر 

 

تتضاءل الكلمات وتصغر المعاني عند الحديث عن الراحل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، فالرجل أصبح بتاريخه مرادفاً لتاريخ بلد وأمة، وبات بحضوره الفاعل والرئيسي في مختلف الأحداث التي مرت بها اليمن في العصر الحديث نموذجاً للرجل الذي عشقته الأضواء. فعند الملمات يبحثون عن الشيخ الأحمر وعند العواصف والأحداث الجسام والإضطرابات يفتش اليمنيون عن الحكيم والشيخ الجليل الذي لم يكن يتحدث كثيراً بقدر ما كان يفعل أكثر.

 لم يستند الشيخ عبد الله رحمه الله على تراث وتاريخ مشرف من النسب والنضال صاغه والده وأخوه وأسرته فحسب بل أضاف إلى هذا الرصيد إنجازات ومواقف لم يختلف عليها اثنان لمناصرة الثورة والمغامرة بتحمل المسؤولية في أوقات عصيبة مرت بها. وعلى مدار ما يقارب عقدين من الزمن اقتربتُ مثل بقية الصحفيين من الشيخ الأحمر فقرأت فيه زوايا مبهرة لشخصية الإنسان اليمني البسيط والعميق في آن واحد، الإنسان المبدئي والصادق مع نفسه حتى أنه لا يجامل أحد كان في أمر يتعلق بمبدأ أو قضية مصيرية. وخلال المقابلات الصحفية العديدة التي أجريتها مع الشيخ عبد الله كان يحرص أولاً على حضور مقيله بعد العصر لمتابعة كيفية إدارة الشؤون القبلية وأن يلم ببعض القضايا الإجتماعية والسياسية وكنت الحظ بدهشة سعة وإطلاع الرجل على أحوال الأسرة اليمنية في مختلف الأنحاء وكانت قمة الانبهار من معرفته العميقة بعلم الأنساب العربية وتاريخ القبائل والمناطق وهي ثروة فقدتها البلاد في شخص هذا الرجل المرجع الشامل، ولا أنسى سؤاله لي ذات مرة أنت من بيت العشماوي الذي في القاهرة أو بنها أو المنصورة فقلت من المنصورة ولما عدت إلى مصر سألت في هذه المناطق فوجدت أن عائلات العشماوي متواجدة في هذه المناطق التي ذكرها الشيخ فقلت في نفسي حينها لقد تجاوز بمعرفته الموسوعية قبائل اليمن إلى قبائل مصر.

 وعلى مدار السنين لم يتغير الرجل في رؤيته للأحداث السياسية القومية والإسلامية ولديه مبادئ واضحة لا تقبل المهادنة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومسؤولية الزعماء العرب وتهاونهم في ضياعها وأيضا في السياسة الأمريكية في المنطقة والتي لم يكن يختار لوصفها أية ألفاظ دبلوماسية بل يطلق ما في قلبه مهما كانت النتائج، حتى أن الوفود الأجنبية والسفراء يعرفون عنه هذه السمات. وأذكر حينما كنا نجري حواراً لمجلة «الأهرام العربي» قبل حوالى عام بحضور رئيس التحرير الدكتور عبد العاطي محمد حدث أن جاء وفد برلماني أوروبي للقاء الشيخ، فكانت عباراته مع الوفد حادة وصارمة عندما تعلق الأمر بحصار الفلسطينيين بعد فوز حركة حماس بل واتهم الغرب وأوروبا بالكيل بمكيالين في قضية الديمقراطية واعتبر أنهم فشلوا في إثبات مصداقيتهم.

وفي أحد الأحاديث الصحفية التي أجريتها معه قبل سنوات تفجرت أزمة دبلوماسية صامتة بين صنعاء والدوحة بسبب الحديث الصحفي عندما اتهم كل الذين سيحضرون المؤتمر الشرق أوسطي في قطر بأنهم خونة مع علمه بأن الحكومة اليمنية ستشارك فيه وتم احتواء الأمر بتفسيرات حكومية رأت في تصريحاته موقفاً شخصياً وليس رسمياً.

على المستوى السياسي كان الشيخ الأحمر طرازاً فريداً يمثل الحكمة والرجاحة والاعتدال، ولم يكن يتحدث كثيراً بل كانت رؤيته الوطنية الجامعة سقفاً جامعا لأغلب اليمنيين، واكتسب طوال عمره مهابة وإحترام الجميع لأنه لم يفهم السياسة على أنها فن الممكن بل فن الصدق والصراحة مهما كانت النتائج. وفي مذكراته - التي نشرت أخيراً - من السهل أن تستنتج ذلك سواء في مواقفه من الدعم المصري للثورة اليمنية فهو في الوقت الذي يمتدحه ويعتبره مساهمة كبيرة للجمهورية لم يتردد في توجيه النقد الشديد لما يراه من تجاوزات للمصريين في صنعاء، ومن انحيازهم - حسب رأيه - مع المشير السلال وإحتجاز الوزراء في القاهرة، لكنه حينما حدثت مصادمات مع القوات المصرية عقب قرار اللجنة العربية بسحب الجيش المصري من اليمن وقف إلى جانب القوات المصرية وحماها بل وعندما سمع بنكسة 5 يونيو عاد إلى صنعاء وأبدى استعداده لتجهيز عشرة آلاف مقاتل لدعم الجيش المصري في مواجهة إسرائيل. وفي مواقفه الوحدوية الناصعة عبر كثيرة، فقد تحمل الشيخ الأحمر وقت الأزمة السياسية عام 1993 مسؤولية تاريخية في البرلمان اليمني ومنع حدوث حالة الفوضى من خلال حشد موقف جماعي ضد محاولة الإنفصال، وتتعدد مواقف الشيخ عبد الله ومنجزاته سواء مساهمته الكبيرة في إنهاء وتسوية ملف الحدود مع السعودية، أو من خلال قدرته في التأثير على القبائل ودمجها في العمل الديمقراطي القبلي وجعل سقفها الأعلى المصلحة الوطنية، وكان بمثابة رمانة الميزان في تحقيق القاعدة الذهبية في اليمن المبنية على التوافق السياسي، والتي يبدو أنها خلال مرضه الأخير عصفت بها الريح تحت أقدام السياسيين الجدد ممن يدبجون الكلمات الساخنة والمانشيتات العريضة فحسب.

والحديث عن الشيخ عبد الله ذو شجون وأبعاده لا يتسع المجال لذكرها ويكفى الرجل هذا الإحتفاء به ميتاً من الجميع، ويكفيه هذا الشعور الواسع بالفراغ الذي تركه في قلوب محبيه وفي الساحة اليمنية، ويكفيه هذه المبادئ التي ناضل من أجلها في الحرية والوحدة والديمقراطية. فمثل الشيخ عبد الله لا يمكن أن ينسى.

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp