ما أحوج اليمن إلى حكيمها الشيخ عبد الله *راشد الغنوشي

 نقلا عن صحيفة الصحوة    

  في تاريخ كل جماعة قامات سامقة، تظل ذكراها معلما ثابتا ومنارة عالية، تشتد الحاجة إليها كلما ادلهمت الظلمات واستبدت الحيرة وتمزق الشمل وتفرقت الصفوف وغابت الحكمة واضطربت الفكرة وتزعزعت أسس مقومات اجتماعها وتفجرت فتنا، تلك حالة اليمن كما تبدو للناظر هذه الأيام منطقة رياح منخفضة تعصف به رياح وأطماع قادمة من كل مكان واجدة فيها أرضاً خصبة تزيد طينه بلة ومشكلاته تعقيدا، وذلك في غياب حكيمه الكبير الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رحمه الله، وكأني به كان اللبنة التي تشد البناء وتحفظ له تماسكه وتمتص كل الهزات والزلازل التي ظلت على أكثر من امتداد قرن تهزه منذ العهد الملكي إلى عهد الثورة والنظام الجمهوري حيث تبلورت شخصية هذا الزعيم من مستوى زعيم قبيلة إلى زعيم قبائل إلى زعيم وطني إلى زعيم من أبرز زعماء الأمة وحكمائها، فتعددت أدواره القيادية ببروز صفاته القيادية ومواقفه الحكيمة على كل تلك المستويات.

لقد نجح في تطوير ميراثه العائلي القبلي والوطني باعتباره سليل أسرة قاومت جهالة واستبداد عهود الملكية وقدمت الشهداء، من مستوى الزعامة الثائرة إلى مستوى الإسهام الفاعل شريكا رئيسيا في التأسيس للنظام الجمهوري وحمايته من مختلف المكائد الخارجية سواء أكانت تنطلق من حنين النكوص إلى الماضي المدعومة من الجوار، أم كانت زحفا أحمر يطمح إلى فرض نموذجه الاستبدادي على الوطن كله واتخاذه قاعدة سوفياتية متقدمة، أم كانت مدفوعة بنزوعات تشقق قبلي.

 

ولئن كان الشيخ عبد الله يمارس السياسة بمنطقها وهي لا تتجرد نهائيا عن القوة، فالنزوعات العدوانية أصيلة في الطبيعة البشرية ولذلك لم يتردد في شد أزر الدولة عسكريا كلما تعرضت لتحديات القوة فهددت كيانها، فإنه كان يغلب جانب الحكمة نهاية، مؤثرا السياسة، بما هي حوار ومفاوضة ومساومة وبحث عن تسويات وحلول وسطى، فكانت له أدوار قيادية حاسمة في كل ما عرض لليمن خلال أزيد من نصف قرن، سواء أكان ذلك على صعيد العلاقة مع الجوار السعودي ترسيما للحدود أغلق جرحا ظل يمثل نزيفا في جسم المنطقة أمدا بعيدا، أم كان على صعيد العلاقة بين الدولة والحركة الإسلامية، العلاقة التي شهدت ضروبا من التوترات على امتداد المنطقة وكثيرا ما كانت دامية، إلا أن حكمة الشيخ رحمه الله وقفت بها دون الانجرار للتورط في نماذج من المواجهات الدامية التي حصلت غير بعيد في معظم بلاد العرب وخصوصا في بلاد الطوق، فأضعفت من قدراتها في مواجهة العدو الصهيوني، نجحت حكمة الشيخ بفضل الله في نسج نموذج لهذه العلاقة اتسم بتعايش، تراوح بين الاعتراف المتبادل وبين المشاركة في الحكم والمشاركة دائما في مواجهة الأخطار الكبرى التي واجهت البلد مثل خطر الانفصال، حيث كان هذا التحالف السد المنيع في مواجهته وكسره، لقد صنع اليمنيون نموذجا متميزا لهذه العلاقة من خلال هذا اللقاء البديع في شخص الشيخ عبدالله بين الزعامة القبلية لأكبر تجمع قبلي ورئاسة الحركة الإسلامية لأهم جماعاتها «حزب الإصلاح» والشخص الثالث في الدولة من خلال رئاسته للمجلس النيابي، فكان ذلك ترجمة متميزة لشهادة النبي عليه السلام التي لا تقدر بثمن لأهل اليمن»الحكمة يمنية»

 

ولم يقف مجال تأثير هذه الشخصية الفذة على وطنه الأصلي اليمن بل تعداه إلى القيام بأدوار قيادية في أهم قضايا الأمة وخصوصا قضيتها المركزية قضية فلسطين التي لم يتردد في البذل لها بسخاء من جاهه وماله شادا بأزر كل فصائلها التي حضر ممثلوها في جنازته المهيبة اعترافا بفضله، ولم يكن من قبيل المجاملة اختياره من بين الزعامات الدينية والشعبية للأمة ليكون على رأس مؤسسة القدس العالمية إلى جانب أخيه العلامة يوسف القرضاوي.كما كانت إطلالته واسعة على جملة قضايا الأمة وعلاقاته ممتدة مع ممثليها وزعمائها. وفي هذا الصدد توطدت علاقتنا به في حركة النهضة التونسية فوجدت محنتنا لديه رحمه الله شد الأزر والدعم والتشجيع.

 

لقد اختارت مشيئة الله التي قضت «كل نفس ذائقة الموت» اختارت له الرحيل في وقت تتعرض فيه الأمة وخصوصا قضية فلسطين والوطن اليمني لأشد الأخطار بما يجعل الأمة تتلفت يمنة ويسرة باحثة عن قامات سامقة من صنف الشيخ عبدالله، إذا استصرخوا الأمة استجابت، وإذا أهابوا بالفرقاء إلى اللقاء اجتمعوا، وإذا دعوا إلى البذل والتضحية وجدوا من يلبي. القدس تتسارع مخططات تهويدها وهدم بيوتها ومعالمها وتتسع وتتعمق تخريبات الفئران الصهيونية تحت أقصاها بما يجعل إعلان انهياره وشيكا، وغزة قلعة البطولة والفداء ارض الجبارين تتحول إلى أكبر معتقل نازي في العالم أحيط بأسوار خرسانة إسرائيلية وأسوار فولاذية مصرية لخنقه والتنكيل به وفرض الاستسلام عليه على ملأ بل وبمشاركة وتواطؤ دولي وإقليمي.

 

أما اليمن فيمر بمحنة ربما غير مسبوقة تهدد وجود ذاته، إذ تفجر مواجهات دموية، لم يدخر فيها سلاح، بما في ذلك سلاح الطيران، ناهيك بالتحركات الانفصالية والأعمال «القاعدية», باختصار يبدو الجسم اليمني وكأنه في طور متقدم من التفكك والصوملة، أرضا منخفضة تغري كل ذي طمع ومأرب جهوي أو إقليمي أو دولي بالسعي لاتخاذ موطئ قدم في أرضه وبين قبائله وطوائفه..ما كان ذلك ليحدث إلا في غياب الحكمة اليمنية التي مثلها الشيخ عبدالله رحمه الله.

 

الدرس الذي ينبغي ألا ينسى أبدا في مثل هذه الأوضاع الفارقة العصيبة هو الذي تشهد عليه سيرة الشيخ ومواريثه الغنية أن القوة في غياب الحكمة لا يمكن أن تفضي إلا لمزيد من الكوارث حتى ولو كانت هذه القوة بضخامة القوة الأمريكية، فلا مناص لأهل اليمن من العودة لهذه المدرسة ولهذا الدرس أوبة إلى الرشد والحكمة والحوار، ولكنه الحوار الجاد كالذي حمله مشروع «اللقاء المشترك» باعتباره أحد أبرز مواريث الشيخ عبدالله وحكمته واجتمعت عليه أهم التكوينات اليمنية الفاعلة إسلاميين وقوميين واشتراكيين وزيديين جاعلين على رأس هيأته الشورية أحد أبرز أبناء الشيخ عبد الله الزعامة اليمنية الواعدة الشيخ حميد الأحمر الذي رأى فيه الرأي العام العربي من خلال إطلالته المتميزة في أحد برامج الجزيرة زعامة تفيض جسارة وحكمة وفطنة، فانبعث الأمل في أن تكون محنة اليمن عابرة وتشققه القائم ظرفياً وجراحاته إلى اندمال، إذا وفق الله أهله بزعامة» اللقاء المشترك» إلى قيادة خطة إنقاذ، تستلهم تراث الشيخ عبدالله، فتجمع بين الحكمة والحزم، وتعيد لليمن نسيجه الثقافي الديني الجامع بمنأى عما داخله من تشددات سلفية ونكوصات أغنوصية واردة عليه، أسهمت في تمزيق أنسجته الموروثة، خطة يفرضها تحرك شعبي حاسم في وضع حد للمظالم المستشرية ولنهب الأرزاق فيعطي كل ذي حق حقه وأسهمه في الحكم والثروة والثقافة. ذلك ما نفهمه من تراث الشيخ عبدالله رحمه الله وأخلف فيه خيرا وطنه اليمني والوطن العربي والإسلامي وبالخصوص أسرته بزعامة الشيوخ الصادق وحميد وحسين... نسأل الله جل جلاله أن يجزي الله الفقيد حكيم اليمن عن الأمة كل خير وأن يكون ممن ينادى في الملإ الأعلى: «ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي».

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp