"6" ساعات تحت القصف الحكومي لمنزل الشيخ الأحمر

عشرات الشهداء ومئات الجرحى" حصيلة مجزرة السلطة بالأسلحة الثقيلة في حي الحصبة أثناء قصف منزل الشيخ صادق الأحمر ـ شيخ مشائخ حاشد وأحد أبرز الداعمين لثورة الشعب السلمية ـ عشية احتفال الشعب بالذكرى 21 للوحدة .  
وفيما يلي موجز لأهم مشاهد ذلك اليوم الاستثنائي في تاريخ العلاقة بين السلطة ومواطنين في قائمة أهم المناصرين للثورة الشعبية السلمية لأقوى ست ساعات من لحظات الرعب والهجوم العنيف الاثنين الماضي بين 12 ظهرا و6 مساء .  

لم تكن الوساطة التي أوفدها الرئيس إلى منزل الشيخ صادق الأحمر قد أنجزت مهمتها في فض الاشتباكات بين وحدات الحرس الجمهوري والنجدة والأمن من جهة، وحراسة الأحمر من جهة أخرى، لم تمر سوى عشر ساعات تقريبا على الهدوء الحذر الذي أعقب ليلة حامية الوطيس، حتى عاودت الآليات العسكرية محاصرة وقصف منزل الأحمر الواقع على بعد كيلو مترات فقط من دار الرئاسة بشارع الستين، باطراد منتظم .  
 
كان القصف يزداد ضراوة كلما وسع مناصرو الأحمر الدائرة المحيطة بالبيت الكبير، وتمكنوا من إبعاد المحاصرين كثيراً .  
 
قدم الوسطاء مساء الأحد حلولهم بإيقاف الأحمر توسعه على حساب المنشآت العامة التي كان بلاطجة الحكومة يكدسون فيها كافة أنواع الأسلحة، بحسب بيانات صادرة عن مكتب الشيخ الأحمر، مقابل سحب كافة أنواع الوحدات العسكرية المحاصرة لمقر إقامة الشيخ .  
لم تتوقف المعركة عند مدرسة الرماح للبنات ولا عند المعهد العالي للإرشاد كما لم تنته عند الاشتباكات جوار الداخلية، ووكالة سبأ حيث كان الشيخ صادق يأمر أتباعه بعدم الإطلاق عليها، كون الأمر قد حسم هناك. شيء من ذلك لم يكن يهمنا نحن المتواجدين داخل القلعة القبلية الأكبر في اليمن .  
في منزل الشيخ الأحمر يكمن جزء كبير من تاريخ اليمن الحديث، خمس جمهوريات عاصرت ذلك المكان. يجدر بالزائر لقصر الشيخ عبد الله أن لا يصرف من وقته كثيرا لرؤية التحف والهدايا والصور والأثاث الأنيق والديكور المميز، هناك ما يبهر أكثر بكثير، هنا تحل المشاكل وهناك يجتمع الوجهاء والأعيان. هنا يلتقى المفكرون في المنتدى النصف شهري، وهناك تجد قضايا الأمة الكبرى مكانا للاهتمام والمناقشة والمتابعة وتنفيذ الخطط. في منزل الشيخ مر كثير من زوار اليمن الكبار ووطأت أقدامهم نمارق الدار المخصص ثلثاه تقريبا لإبراز وجه اليمن أمام زواره ومحبيه. علماء وقادة وسياسيون ومفكرون وزعماء ومشاهير ومؤثرون، ترك فيهم المكان بصمته وأودع فيهم أصحاب المكان شيئا من نفحات الحكمة والإيمان، وكرم الضيافة .

الاثنين الفائت لم يكن منظر المدججين بالسلاح مثيرا للانتباه، فذلك مشهد لطالما طوعه صاحب البيت زمنا لصالح ما يؤمن به من أفكار ومدنية وتحديث بالقدر الذي كانت تمر به اليمن من تطوير في هذا الجانب بحسب كثير ممن تحدث في هذا الموضوع. الكل على غير سجيته وسمته الذي يظهر به في شاشات التلفاز، كمشهد الأشقاء صادق وحميد وحاشد وهاشم، وهم يتوشحون أسلحتهم وستراتهم وخزنات الرصاص، ومشهد اللواء غالب القمش وزملائه في لجنة الوساطة الشيخ أحمد أبو حورية والشيخ فيصل مناع وغيرهم، وقد بدت عليهم مظاهر السخط والغضب من فشل الوساطة وعلى الرئيس الذي أرسلهم للوساطة واتبعهم بالصواريخ .  
الكل هناك شاهد الموت بأم عينيه، شهداء وجرحى ومصابون، بعضهم من سطح المنزل وبعضهم من الحوش وبعضهم من الشوارع المحيطة وبعضهم من المواطنين المارة. وكمهمة إنسانية فقد زودهم المستشفى الميداني لساحة التغيير بفريق ميداني لإسعاف الجرحى والمصابين. بل وتعرض للقصف عدة مرات في ذلك فقط ـ بحسب مسؤول الفريق .  
تمام الثانية عشرة ظهرا انتهى اللقاء التضامني بكبار مشائخ وأعيان اليمن الذين توافدوا لإدانة واستنكار الاعتداء على واحد منهم وإعلان ما يسمى في العرف القبلي بـ"العيب الأسود". كان ذلك كافيا لأعود أدراجي أنا والزميلان سمير النمري وكمال الهتاري، اللذين هرعت معهما لتغطية الموقف. ووسط أزيز الرصاص وإطلاق القذائف على منزل الشيخ هزاع ضبعان، المجاور لمنزل الشيخ، وجدنا أنفسنا مندفعين باتجاه الموت المحقق. لم يكن في حسبان أحد أن تصل جرأة صالح وقواته لقصف منزل أي مواطن يمني بتلك الوحشية التي قصف بها منزل أحد أكبر الشخصيات الاجتماعية ذات النفوذ والتأثير القبلي على مستوى اليمن، لا سيما في وجود وساطة من العيار الثقيل .  
كان غداؤنا جميعاً وسط القصف، صلاتنا، مقيل بعضنا. لم تعد هناك غرفة عمليات تضم الأحمر مع أقرب معاونيه. كان شيخ حاشد يفترش الأرض يستقبل الاتصالات ويخاطب كل متصل بلغته، بالعربية، بالإنجليزية، بلغة القبائل، ولغة السياسيين، لغة العسكر، لغة الدبلوماسيين، لغة المواطن المعتدى عليه، ولغة القائد الذي يحتمي كل الموجودين، بشجاعته، ببراعته على إدارة تلك الأوضاع الاستثنائية. كل ذلك ويحيط به عدد من الرموز القبلية، مشائخ وأعيان وسياسيون، القمش، أبو حورية، أبو أصبع، علي بن علي القيسي، وكثيرون ممن لا نعرفهم أو غفلنا عن ذكر أسمائهم. الكل يسمع ما يجري وما يدور في الخارج، وطبعا لم يغفل أحد ولو لحظة واحدة عن سماع أصوات الرصاص من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، أما الثقيلة فقد كان الجميع يحس بها ويهتز تبعا لقوتها .  
ما عدا الهواتف الجوالة، كل شيء مسموح به، الحركة، الكلام، إبداء الرأي، التصوير، أخذ التصريحات، غير أن هول الموقف والشعور بالاقتراب من الموت حال دون كل ذلك. لم يبق هناك أي أمان من سقوط أي شيء في أي مكان، علامات الهلع كانت واضحة فقط على أعضاء الوساطة. جولات مكوكية كنت أقوم بها بين البدروم والدور الأول، في انتظار الخروج من المكان، حيث لم تبق مهمة أخرى غير انتظار الموت وبيان لجنة الوساطة، الأخير كان يمكن الحصول عليه عبر الفاكس أو الإيميل، وليس ثمة أسوأ من انتظار الموت. على أن الهلع الحقيقي لم يبدأ إلا حين اضطر الجميع للنزول إلى البدروم طلبا للسلامة باعتبار أنه لاتزال ثمة إنسانية في هذا النظام .  
أظهر صاروخ توماهو -كما قيل- أن توقعاتنا بوجود آدمية في تركيبة هذا النظام، كانت غبية، وفي أحسن الأحوال كانت شجاعة غير محمودة إذ لم يكن البيت الكبير مجهزا لأي احتمالات سيئة كتلك التي رأيناها، بدا وكأنه يعيش لحظات عادية أو كأنها مفاجأة ليس إلا، فقد أظهر أهل البيت وأنصارهم بسالة نادرة ومواطنة حقيقية. كما أظهر الصاروخ اللعين مدى ما يتمتع به صالح وأعوانه من قدرة فائقة على المكر والحيلة والرغبة في التخلص من الخصوم، حتى في حق الوسطاء. ومن جهة أخرى فقد كشفت الحادثة برمتها عن مدى التخبط الذي أوقع النظام في عمل كهذا يورطه في شبكة من العداوات والسخط الشعبي .

 

من شأن كل قذيفة تقع في حمى أي مواطن يمني، ومنهم الأحمر وداره المضياف أن تقع في قلب كل يمني، لمكانة الشيخ الأب والعشرة الأبناء. هم يمنيون أولا وقبل كل شيء، ثم هم ثوار من طراز 48، و 59، و 62، و 2011م. كما أن كل ضربة تقع بمكان في نفس كل شيخ قبيلة، وقيادي معارض، ورجل أعمال، وكل ثوري عرف آل الأحمر في كل ساحات التغيير .  
ماذا بقي لكل هؤلاء من مودة للنظام بعد أن انفرد بكبير مشائخ اليمن قوة ورجالاً ونفوذاً وعمقاً داخلياً وخارجياً! بل وكيف يمكن أن يأمنوا على أنفسهم وممتلكاتهم أمام كل تلك الوحشية، لقد خسر صالح هؤلاء كلهم عمليا، من حيث يدري ومن حيث لايدري .  
كانت الضربات المتتالية تلاحقنا "زنجة زنجة" من ركن لآخر، من ديوان لآخر، ومن صالة لأخرى، وبلغ إحساسنا بالخطر ذروته لحظة صعود الشيخ صادق الأحمر عبر مصعد كهربائي إلى الدور الثاني، لنفاجأ بضربة قوية للقبة الرئيسية، سقطت على إثرها النجفة الكبرى وتطاير زجاجها في كل أنحاء المكان وسط رعب الصوت والصورة. شكلت هذه الضربة الأخيرة أهم عامل أجبر الجميع على النزول إلى البدروم فكانت الفاجعة .  
غادرت أذهاننا كل الاعتقادات بتوقف هذه الوحشية، وبات الموت مستقبلا ينتظر الجميع، وفيما كان الشيخ صادق يهاتف شخصا دون أن نسمع الطرف الثاني: "قل للرئيس الآن، قسما بالله، إذا لم يوقف الضرب على بيتي، إنني ما أمسي إلا في قرية الدجاج"، يقصد بقرية الدجاج، المكان الذي فيه بيت الرئيس ومنه تنطلق تلك الدانات والقذائف .  
في جزء من الثانية فقط وقعت تلك الفاجعة، لمع المكان كله وفيه المئات من المشائخ والأعيان وأتباعهم، ثم تناثرت الشظايا والأحجار والزجاج والأتربة والدخان والبارود حتى تلون المكان باللون الأسود، كل ذلك في جزء من الثانية، صوت وصورة وشظايا وأشلاء وشهداء وجرحى واختناقات .  
كنت من أوائل الذين تمكنوا من الخروج، وفور الإفلات من قبضة الموت كنت أول المغادرين للمكان مع أول سيارة إسعاف تابعة للمستشفى الميداني، تحمل مصابا سبقني إليها، باتجاه ساحة التغيير .  
لحظات العوم في بحر الدخان في بدروم الأحمر، جعلتني أتألم كثيرا لحال زملاء القصف، وفيهم الطفل والشيخ المسن والموالي لقاتله، وتبسمت ببطء شديد وأنا أتذكر الدقائق الأخيرة قبل الصاروخ، حين قال القمش رئيس الأمن السياسي، لنا وللمصورين: "قتلتونا صور، خلو لنا حالنا"، فكان الجواب: "خلينا نصور الحلقة الأخيرة لنا" كان الإحساس بالنهاية قويا .  
هي ثورة شعبية إذن، ذاق فيها الشعب كل الشعب، شتى صنوف وألوان التنكيل، من نظام صالح. ليس هناك فرق في نظر شاغل كرسي الرئاسة، بين طفل وشيخ، بين رجل وامرأة، الكل في تصوره أوساخ يجب تنظيفها. خلال أربعة أشهر تقريبا تقاسم الشعب اليمني بأجمعه الحصار والخوف وانعدام الخدمات العامة. لا غاز ولا كهرباء ولا ماء ولا بترول ولا ديزل، بالأمس قتل عشرات المواطنين في كمين مصنع الذخيرة بأبين، واليوم تجرع مشائخ اليمن وكبار رجالاتها من نفس الكأس الذي سقاه بلاطجة صالح للشباب في مختلف ساحات التغيير. الدبابة مقابل المصفحة، وقذيفة الهاون مقابل الرصاصة، والصواريخ الذكية بدل قنابل الغاز. لقد وحدت الثورة كافة أبناء الشعب من أقصاه إلى أقصاه حتى في طريقة الموت .  
مشاهد متفرقة  
· 
الشيخ صادق يدخل الصالة الرئيسية مرتدياً لامة القتال، كعرف قبلي في مثل هذه الأوقات، يوجه إخوانه وأصحابه: كل واحد يأخذ مكانه، ما نفعل، ننتظر الموت؟؟.·        أثناء سقوط بعض القذائف كانت البيت يهتز بمن فيه، وكان جوال الشيخ صادق مزود بنغمة نشيد "يالله يالله ياشباب.. سلمية سلمية"، فكانت تحدث بعض التعليقات الساخرة والمضحكة في نفس الموقف·        الشيخ حميد: "صحيح أن هذا الاعتداء له جذور ثورية، إلا أن ما يجري هو مسألة شخصية بين الشعب والرئيس". في تصريح لقناة الجزيرة. يقيم الصلاة، يصلي بالناس متوشحا سلاحه، كغيره من أفراد القبيلة، المشائخ سبأ أبو لحوم وجبران مجاهد أبو شوارب وحاشد الأحمر وغيرهم، يقومون بشبكة من الاتصالات ويبلون حسنا في رفع معنويات الحاضرين إزاء القصف الممنهج، اللواء القمش وأعضاء الوساطة -لأول مرة- يصوغون بيانا لخصوا فيه نتائج الوساطة وحملوا الرئيس مسئولية بوادر الحرب الأهلية.·        إحدى القذائف الخمسين تقريبا، دكت ترويسة البوابة الشمالية على الشارع الرئيسي، لتتوزع شظاياها أرجاء الحوش. رجعت إحدى شظاياها عبر الباب الرئيس للقصر وتقتل أحد الواقفين بجوارنا، فيما شظايا أخرى لقذيفة ثانية كسرت زجاج النوافذ الكبيرة للصالة وأسقطت بعض النجفات.·        الشاعر والإعلامي عبد الرحمن الشريف، كان يجوب المنزل طولا وعرضا قبل أن تصاب أذناه بالصمم جراء صوت الصاروخ، لقربه من نوافذ البدروم المأساوي، كنت أمني النفس كثيرا مع كل استراحة بين كل صاروخ وآخر، وأتساءل: هل سأعود إلى ساحة التغيير مرة أخرى، أم أن قذائف الصالح هي جواز السفر إلى الدار الآخرة  
لم ينطق الزميل فوزي الجرادي السكرتير الصحفي للشيخ حميد الأحمر، أمامي سوى بقوله، "اليوم يوم الجن".·        بقي الزميلان سمير النمري وكمال الهتاري مبتسمان طوال الوقت لا تتوقف نكاتهم وفكاهاتهم، ويحسب لهما أنهما بقيا بعد الصاروخ الآثم لتصوير المشهد الأخير وتصوير الشهداء والجرحى وحالة الذهول التي عمت المكان المهيب على الدوام .  
  
كان أول ما نطق به الشيخ صادق الأحمر ساعة خروجه من الحادث وقد علاه الغبار الكثيف، هو تفقد لجنة الوساطة والمشائخ، "أين الفندم غالب، أين عمي فيصل، أين فلان أين فلان...." يمني مضياف حتى اللحظة الأخيرة .