الفقيد الأحمر: حكمة الشيخ لم تمنع جسارته في المواجهة

 

عبد الحكيم هلال

قبل أذان مغرب عقد من الزمان، يوم مقتل الشهيد جار الله عمر، كنت في ديوان الشيخ المرحوم عبد الله بن حسين الأحمر. اليوم الذي كانت تمر فيه البلاد بواحد من أخطر التحديات السياسية في تاريخها السياسي الحديث. فلقد كانت تجربة تحالف المعارضة - التي لم تكن سوى في بدايتها - على المحك. عكس خطورة الأمر، هذا الحشد الكبير الذي اكتظ به ديوان الشيخ بأهم قيادات أحزاب اللقاء المشترك، لمناقشة تداعيات الحادث وموجبات التصرف المفترض والمطلوب فيه التصرف بشكل دقيق وحساس يتماشى وحجم الكارثة..

 

وفي خضم النقاشات، استقبل الشيخ عبد الله اتصالاً مهماً، جعله يرفع يديه لتهدئة الأصوات التي خفتت بشكل آلي. كان الاتصال من الرئيس علي صالح. ومن خلال الأخذ والرد أدرك الجميع أن صالح كان يطلب من الشيخ تسليمه التسجيل المصور لاعترافات القاتل. رفض الشيخ الطلب بشكل غير قابل للتراجع، قائلا: هذا الأمر لا يخصني وحدي بل يخص جميع قيادات اللقاء المشترك وبالأخص حزبي الإصلاح والاشتراكي، المتضررين الرئيسيين من عملية الاغتيال المدبرة. لدقائق متواصلة من الحديث التلفوني كان إصرار الشيخ واضحاً على الرفض، أمام محاولات وتهديدات الرئيس، التي اتضح لاحقاً - عبر حديث الشيخ للحاضرين - أنه هدد بتحميل الشيخ وأولاده وحزب الإصلاح جريمة التدخل في أعمال الدولة وانتهاك القانون.

 

كان ذلك التسجيل، الذي تضمن اعترافات المتهم بالجهة التي أوعزت إليه بتنفيذ العملية، نتيجة التحقيق مباشرة معه بعد ارتكاب العملية من قبل قيادات مشتركة في الحزب الاشتراكي، الإصلاح، وبعض أولاد الشيخ، هو الدليل القاطع والمنقذ الذي حافظ على تماسك وحدة المعارضة بعد أن استهدفت بشكل واضح من قبل النظام.

 

واليوم، ومع حلول الذكرى الرابعة لرحيل حكيم اليمن الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، الذي توفى في 28 ديسمبر من العام 2007، في الرياض، بعد معاناة طويلة مع المرض استمرت سنتين تقريبا...في مثل هذا اليوم استهوتني مثل تلك الشجون لتوعز لي ما يستوجب الإنصاف فيما أثاره الشيخ من جدل في حياته.

 

 وخلال تاريخه السياسي والاجتماعي الطويل والحافل، تعرض الشيخ عبد الله الأحمر - شيخ قبائل حاشد القوية - لمضايقات شخصية كثيرة استهدفت إضعاف قوته وتأثيره الاستثنائي والواضح على الحياة السياسية. لكن ومع ذلك، ظل هناك من يكن له عداوة كبيرة، من خارج النظام، معتبرا إياه أحد حلفاء الرئيس، وعده البعض سببا رئيسيا في تقوية نظامه المتداعي. وفي المقابل كان كثيرون يعدونه رمزا للقوة والبسالة والشجاعة. ما جعله ذلك التناقض مثار جدل أثناء حياته وبعد مماته.

 

والأرجح، أن التيار العقلاني، ممن عرفوا وعايشوا الشيخ، ظلوا يضعونه موضع تقدير دائم قياسا بمعظم مواقفه التي أتسمت بالوطنية، تباعا لأدواره النضالية التي بدأت قبل ثورة سبتمبر 1962، وتواصلت إلى ما بعد تحقيق الوحدة اليمنية (1990). وعليه فإن مثل هؤلاء ينظرون حتى إلى تلك المواقف التي يراها البعض منحازة للرئيس، على أنها مواقف طبيعية غلبت عليها الحكمة والتسامح والوطنية وغيرها من الصفات التي تطبع عليها الشيخ وبلغها من طول التجربة والخبرة.

 

وفي الواقع، ومن خلال تلك المواقف، فإن النسبية تؤكد أن الشيخ عبد الله الأحمر لم يكن منحازا للرئيس، أكثر من انحيازه للوطن. ويدرك السياسيون الحصيفون، ارتكازا على حجم الشيخ وقوته وتأثيره، أن حكمة الشيخ أنقذت اليمن من صراعات كبيرة مبكرة، كتلك التي واجهها الوطن بعد وفاته حتى بلغت ما يشبه الحرب الأهلية في الحصبة خلال الأشهر الماضية. وأغلب الظن أن هذا التيار العقلاني المتعاظم، في الوقت الذي يؤمن فيه بشكل راسخ أن معظم مواقف الشيخ عبد الله المتسامحة والحكيمة جنبت اليمن صراعات كبيرة، إلا أنه لم يتوانَ لحظة في معارضة تجبر وتسلط الرئيس ونظامه بشكل صريح وقوي، لاسيما في تلك القضايا المصيرية التي لا تتعلق بالعلاقات الشخصية الحميمية. كما أن الشيخ، الذي ظل محافظا على خصلة الوفاء في المواقف التي لا تتعدى تأثيراتها الحياة العامة، إلا أنه كان يعمل بخبره وذكاء على تفكيك منظومة القوة الخاصة للرئيس صالح في إطار حزبه التجمع اليمني للإصلاح، لاسيما بعد أن شعر بجنونية الرغبة في توريث الوطن، ما جعل صالح يتعامل معه كرجل خطير يتوجب إزاحته، ولكن بحرص شديد كان يتوخى فيه أن لا يفقده كحليف بشكل صريح. وفي الوقت الذي كان يحاول فيه إضعافه وقصقصة أجنحته، كان الشيخ عبد الله، يدرك ذلك تماما، ليتعامل معه بالطريقة ذاتها عبر عدة محاور كان بضمنها (إلى جانب الاندماج غالبا مع سياسة حزبه التجمع اليمني للإصلاح في إطار قرارات تحالف اللقاء المشترك)، تأليب القبائل ضده، وتشجيع نجله الشيخ حميد في مواصلة منهجه المناوئ لصالح. لكن، وفيما كانت مواقف الشيخ المخالفة لرغبات صالح تتشكل وتتضح أكثر أثناء وبعد انتخابات 2003 النيابية، وما بعدها، إلا أن المرض الذي أقعده الفراش وغادر به إلى العلاج في الخارج والتغيب عن العمل السياسي لقرابة عامين، كان فرض عليه تهدئة المواجهة من جهته فقط، دون حزبه ونجله وأنصاره من شيوخ القبائل. وذلك ربما في أغلب الظن، خشيته من أن ينشب صالح - الذي عرفه تماما - أظافره في الحياة السياسية العامة وفي أسرته أثناء ضعفه ومن بعد رحيله.

 

ومع ذلك، فإنه وأولئك الذين اقتربوا منه، وكذا أولئك العارفين أكثر بطبيعته الجسورة، يجزمون أن موقف الشيخ - بعموميته - من حكم صالح لم يكن ليتجاوز ما قام به أبناؤه من بعد وفاته. إذ أن ذلك العداء الذي برز مع الأحداث الأخيرة بشكل جلي وكبير، ليدل أصلاً على ما كان الشيخ يرغب به في حياته، غير أن الفرصة المواتية لم تكن قد سنحت له بعد كما سنحت لأبنائه، مع قدوم «الربيع العربي» وإصرار الشعب اليمني على إزاحة صالح ونظامه.

 

على أن الاختلاف هنا ربما كان أكبر من حيث قدرة الشيخ المرحوم في التأثير على القبائل وجعلها تواجه بقوة أكبر جبروت وصلف هذا النظام العسكري الأسري. وثمة حقيقة أخرى، تأتي من الإجابة على السؤال التالي: إذا كان أولاد الشيخ عبد الله قد واجهوا تلك العنترية غير المبررة بتلك البسالة والشجاعة، فكيف كان سيكون الأمر فيما لو كان الشيخ موجودا؟

 

أغلب الظن لربما ما كان لصالح وأنجاله وأولاد أخيه أن يقومون بما قاموا به مؤخراً من استهداف منزل الشيخ على ذلك النحو الاستقوائي البغيض. وإن حصل فربما كانت العاقبة أشد وطأة من تلك التي تعرضت لها قوات الأسرة الحاكمة من هزائم متكررة، لم تزد إلا أن أعادت هيبة الشيخ وقوته من بعد رحيله.