التلميذ الذي ضرب أستاذه باللوح الخشبي * تقرير

المصدر 1/1/2008م

 

قبل أن يرث الشيخ عبدالله الأحمر من أسلافه القوة والنفوذ، آل إليه وهو لم يزل فتياً، أمر آخر: السجن قيد التحفظ، أو ما كان يطلق عليه (الرهينة).

 كان في الـ26 من عمره عندما وصل صحبة الشيخ علي هبة إلى سجن المحابشة، بعد أن أمضى نحو 12 يوماً في سجن انفرادي في الحديدة.

 في تلك الفترة كان الإمام أحمد يحز رأسي الشيخ حسين بن ناصر، وولده حميد على مهل في قلعة القاهرة.

 لم يكن مواتياً للشيخ عبدالله أن يتمتع بطفولة هادئة البال ومترفة. فعلى الرغم من التركة الزراعية الضخمة التي خلفها أجداده منذ قرون، إلا أن الطفل, الذي كان عوده طرياً ، توجب عليه أن يرث المتاعب قبل أي شيء آخر.

 مطلع 1933، ولد في حصن حبور من بلاد ظليمة. بالطبع لم يعش في كنف والده إلا النزر اليسير. فلئن كان على الأب أن يتفادى "الشرور" التي قد تهب من البلاط، فقد ظل يتردد على القصر بين فينة وأخرى ليبعث مزيداً من الطمأنينة في نفس الإمام.

 

يقول الشيخ في مذكراته: "كان والدي وعمي غالب يقضون معظم أوقاتهم في صنعاء عند الإمام يحيى للمراجعة في مشكلات اختلقتها لهم الدولة والإمام، ونحن في البيت الأطفال الصغار أنا وأمثالي من أولاد العم".

 في الواقع كان بحوزة آل الأحمر، إلى جانب التركة الزراعية المترامية، تركة صراع سياسي مع الأئمة تعود جذورها إلى القرن الثاني عشر الميلادي.

 لهذا لم يكن من السهل على الشيخ حسين بن ناصر، ونجله الأكبر حميد؛ إدارة العلاقة ببساطة مع الإمام يحيى، ثم خلفه الإمام أحمد بعد ذلك.

 عادة تقتضي الفلسفة القبلية أن من يمتلك الثروة يمتلك السلطة. وهي هنا، أي السلطة، المشيخ.

 لقد كان آل الأحمر واسعي الثراء، فذاكرة الطفل عبدالله احتفظت في بادئ الأمر بصورة مليئة بالدلالات.

 يقول: "أذكر كيف كان بيتنا -وهو بيت كبير و أحواشه- واسعة مملوء بالعمال والرعاة ومملوء بالمواشي من كل أنواعها؛ الخيول والحمير والجمال والبقر والغنم".

 لقد كانت هذه الصورة تكثيفاً بالغ الدقة للسلطة التي أينَ الشيخ عبدالله نفسه في خضمها ذات يوم. فالعمال والحيوانات جنباً إلى جنب في صعيد واحد.

 

وإذا كان والده وعمه كثيري الغياب عن المنزل، فقد عهد إلى شخص يسمى حمود بن أحمد اليتيم رعاية وتنشئة الابن عبدالله فترة طفولته.

 لم يلتحق الشيخ عبدالله بأي مدرسة على الإطلاق. فعندما بلغ السابعة من العمر جيء له بمدرس يدعى السيد حسين الفخري (أي أن المدرس هو الذي التحق به).

 في مذكراته لم يخف الشيخ واقعة طريفة حدثت أثناء تلقيه الدروس. ورغم أنها عادية، إلا أنها تنم عن مزاج حاد (لا أدري إن كانت المتاعب والأهوال التي ألمت به لاحقاً قد عدلت ذاك المزاج).

 تقول الواقعة: "حين حاول السيد حسين فخري معاقبة الشيخ الصغير عبدالله، أخذ الأخير اللوح الخشبي الذي كان يستعمل للكتابة، وضرب به رأس الأستاذ، ولاذ بالفرار، وترك تدريسهم بعد الحادثة". طبقاً للمذكرات.

 كان في الـ12 من عمره عندما آلت إليه مسؤولية البيت والأموال: "حيث كان الفرد في ذلك الوقت يشعر بالمسؤولية مبكراً، وذلك بخلاف ابن المدينة" -حسب قوله.

 وقعت على عاتق الفتى الشيخ مسؤوليات جسيمة، لم تكن سياسية في البدء. إنها مسؤوليات عائلية من قبيل متابعة الأملاك وتحصيل الغلال. ولم يكن ليقوى على ذلك في عمره المبكر لو لم يسعفه ظهوره بوصفه شيخ من أول وهلة.

 بالنسبة لبيت الأحمر كانت أسرة حميد الدين أقل سوءاً من أسرة آل الوزير، التي مهد لها مجموعة ثائرين اعتلاء العرش في 1948. كان الشيخ عبدالله عامذاك في الـ15 من عمره. وكان دوره يقتصر على متابعة شؤون التركة لا أكثر ولا أقل.

 لم يتحمس الوالد كثيراً للحركة الانقلابية تلك، بيد أنه بالمقابل أبطأ في إمداد الإمام أحمد في محاولته الالتفافية التي كللت بالنجاح في نهاية الأمر.

 يقول الشيخ عبدالله: "لم يكن الوالد متحمساً لما تم، ولا متحمساً أيضاً لإجهاض ما هو حاصل، فانتقل ببطء من القفلة إلى العشة، وما وصل عمران إلا والثورة قد سقطت. لكن الإمام أحمد الذي كان في حجة أخذها نقطة على الوالد أضيفت إلى ما سبق من الضغائن السابقة ضده".

 باشر الإمام (شرس الطباع) أحمد يحيى حميد الدين حملة عقابية شديدة الوطأة على آل الأحمر.

 فبعد أن استعاد الإمام عافية القصر، واستتبت له الأمور تماماً، أخذ يلقن الشيخ حسين بن ناصر الأحمر دروساً قاسية في الطاعة.

 

على ذمة إحضار الشيخ باقي (أحد المؤيدين للثورة) احتجز الإمام والد الشيخ عبدالله. وراح الأخير يقدم الذبائح في حضرة الإمام، بل وصل الأمر حد محاولة ذبح العقائر على قبر الإمام يحيى.

 على أية حال.. كان الشاب عبدالله (الشيخ) ينوء بمهمة شاقة: "فك أسر والده وشقيقه حميد الذي يكبره بسنتين".

 عندما اختمرت فكرة القضاء على الشيخ حسين ونجله حميد في ذهن الإمام، لأنهما كانا لا يكفان عن كونهما مصدر قلق دائم للحكم، قرر استدعاء الشيخ عبدالله إلى السخنة، ومنها إلى الحديدة.

 

كان قيد الاحتجاز الانفرادي عندما جاءه نبأ مقتل والده وشقيقه. ثم نقل الشاب، الذي بات الوريث الوحيد للأدوار السياسية والقبلية في أسرة آل الأحمر، إلى سجن المحابشة. مكث في السجن 3 سنوات، وفيه استوعب كماً هائلاً من الدروس، وبدأ مسار تفكيره يأخذ منحى سياسياً، بعد أن كان عشائرياً قبلياً محضاً. ففي السجن، وطبقاً لروايته، قرأ رواية "واق الواق"، للزبيري المستوحاة من ثورة خولان، والتي يحضر فيها الشيخ حسين بن ناصر وحميد بن حسين كشخصيتين محوريتين (تسمى رواية مجازاً، وإلا فهي فنياً ليست أكثر من قصة ثورية تقليدية لإذكاء الهمم وشحن العواطف).

 يذكر الشيخ عبدالله شخصية حاسمة في حياته رغم أنها مغمورة، إنه النقيب محمد علي بدوي، كان هذا الرجل مرسلاً إلى الشيخ حسين من قبل النعمان والزبيري في عدن عام 1946.

 نترك الشيخ يروي الحدث: "كان الوالد، عندما قدم النقيب البدوي إلى البيت، في منطقة أخرى من مناطقنا، فبقي هذا الرجل عندنا في الحصن في غرفة خاصة، متخفياً حتى عاد الوالد، وقد اعتبرت وصول هذا الرجل وانفرادي به وسماعي إليه، وإلى الكثير من قصصه قبل عودة الوالد، بمثابة غزو سياسي مبكر بالنسبة لي، أتاني من عدن".

 وعلى كل، فالشيخ الذي عاش أكثر من حياة، أدرك المتاعب من بواكير عمره، قبل أن يدرك النفوذ الساحق بعدئذ.

 

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp