قراءة في معالم شخصية استثنائية ... نصر طه مصطفى

مع غياب آخر أيام العام 2007 كان اليمنيون يوارون الثرى أحد أكبر وأهم شخصيات تاريخهم الحديث في ملحمة وداعية مؤثرة اختلط فيها الرسمي بالشعبي، وتسابق الجميع لإبراز مآثر هذه الشخصية في بيانات النعي التي أصدروها، ما يؤكد مدى إحساسهم جميعا بالخسارة الفادحة التي حصلت بوفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب اليمني. وبالفعل فالرجل كان يستحق مثل هذا الوداع المؤثر الذي خرج فيه مئات الآلاف في جنازة هي الأكبر في التاريخ اليمني، فهو لم يكن مجرد رئيس برلمان كما

لم يكن مجرد زعيم لأكبر أحزاب المعارضة اليمنية، وهو أيضاً لم يكن مجرد شيخ مشايخ قبيلة حاشد، لكنه كان كل ذلك وأكثر منه، فهو بشخصيته الكاريزمية تجاوز كل تلك الصفات وكان أكبر منها جميعاً.

فرئاسة البرلمان كانت بالنسبة له التعبير الأفضل عن مدى ولائه للدولة ككيان سياسي، ليس من باب الضعف، بل من باب مدى إيمانه بدور الدولة الحديثة ومؤسساتها وأهميتها كأسلوب حديث لإدارة شؤون الدولة، لذلك كانت علاقته مع البرلمان تعود لحوالي أربعين عاماً منذ اختياره رئيساً لأول برلمان في شمال اليمن عام ،1969 والذي كان معنياً بمهمة رئيسية واحدة هي إعداد الدستور الدائم الذي سيصيغ شكل الدولة وطبيعة توجهاتها ونوعية مؤسساتها، وبمجرد الانتهاء من صياغة الدستور في نهاية عام 1970 جرت أول انتخابات نيابية لمجلس الشورى في إبريل/ نيسان 1971 واختير الشيخ الأحمر بالإجماع لرئاسته. ورغم أنه كان لايزال حينها في الثامنة والثلاثين من عمره إلا أن مكانته السياسية تطورت بسرعة لعدة أسباب أولها أنه كان عميد أسرة آل الأحمر التي ناهضت الإمامة وقدمت والده وشقيقه شهيدين قبل الثورة اليمنية في سبتمبر/ أيلول ،1962 وثانيها بسبب قيادته للكثير من معارك الدفاع عن النظام الجمهوري خلال سنوات الحرب الأهلية الخمس. ومنذ ذلك الحين برز الشيخ الأحمر كأحد أبرز رموز البناء المؤسسي الدستوري الحديث للدولة الجديدة الوليدة في اليمن حينذاك، وظل رئيساً لمجلس الشورى حتى جرى حله عام 1975 في عهد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي. وعند إجراء انتخابات مجلس الشورى مرة أخرى في عهد الرئيس علي عبدالله صالح عام 1988 حرص الشيخ الأحمر على أن يرشح نفسه إلا أن الرئيس صالح طلب منه بشكل ودي عدم ترشيح نفسه، لحسابات سياسية كانت بصيرة في حينها، لكنه عاد فشجع الشيخ للترشح لعضوية مجلس النواب في أول انتخابات نيابية تجري عقب وحدة شطري اليمن عام ،1993 وأدرك الجميع حينها أن رجلاً بحجم الشيخ الأحمر لا يمكن أن يترشح ما لم يكن هو رئيس البرلمان القادم، وهذا ما حدث فعلاً فقد انتخب رئيساً لمجلس النواب وأعيد انتخابه مرتين لنفس الموقع حتى وافته المنية. وطوال حياته السياسية كان الشيخ الأحمر يجد نفسه في موقع رئاسة البرلمان ولم يسع لأي سلطة تنفيذية سواء رئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة، وكان يدرك أن رئاسة البرلمان التي خبرها جيداً وأجاد صناعتها تعطيه كامل الفرصة للحضور السياسي وإثبات نظريته ورؤيته الخاصة بأن القبيلة يجب أن تكون جزءاً من مكون الدولة، فلا هي خارجة عنها ولا هي مهيمنة عليها، بل يجب أن تكون عوناً للدولة وأجهزتها في فرض هيبتها وسلطتها واحترام دستورها وقوانينها النافذة.

ومن هنا يمكن الحديث عن أن زعامته للقبيلة التي ورثها عن أسرة عريقة لم تكن بالنسبة له هدفاً في حد ذاته، بل كانت وسيلة لتطوير مفهوم القبيلة في اليمن لتكون ركيزة من ركائز بناء الدولة من ناحية وتعزيز دورها كمؤسسة مجتمع مدني. ولذلك يمكن القول إن الشيخ الأحمر وجد نفسه مع مرور الوقت يصبح مرجعية لمعظم القبائل اليمنية ونجح في خلق صلات قربى وتعاون معها بطريقة غير مسبوقة في التاريخ اليمني. والأكيد أن الشيخ الأحمر وجد ما يبحث عنه تماماً في رؤية الرئيس علي عبدالله صالح تجاه عملية مد نفوذ الدولة إلى كل المناطق اليمنية ونشر التعليم ومختلف مظاهر التنمية كالطرق والكهرباء، وخلق مصالح مختلفة للقبيلة تخرجها من دائرة اهتماماتها الضيقة إلى دوائر واسعة من المصالح السياسية والاجتماعية والتجارية، ولذلك اتسمت علاقة الشيخ الأحمر بالثبات مع الرئيس صالح من جهة، كما اتسمت علاقاته مع مختلف مشايخ القبائل اليمنية بالاحترام والتقدير، بل والتقارب إلى درجة الاندماج في علاقات مصاهرة ونسب بهدف تذويب الفوارق وإنهاء الحساسيات وتعزيز الوحدة الوطنية.

أما زعامة الشيخ الأحمر السياسية لأكبر أحزاب المعارضة اليمنية (التجمع اليمني للإصلاح) فهي لم تكن كما يظهر تعبيراً عن قناعة أكيدة بالعمل الحزبي كهدف في حد ذاته، فهو في الحقيقة كان أكبر من ذلك، إضافة إلى أنه كان يعتبر نفسه، بحسب كلامه، مظلة سياسية للحركة الإسلامية المعتدلة، لكنه كان يعتبر العمل الحزبي وسيلة حديثة للتعاطي مع العملية التعددية الديمقراطية التي تطور وعيه السياسي كسائر اليمنيين من رفضها إلى القبول بها، ولذلك وافق على تزعم حزب الإصلاح باتفاق مع الرئيس صالح عقب الوحدة اليمنية لخلق توازن سياسي مع الحزبين الحاكمين حينها المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني، وكانت زعامته لحزب الإصلاح جواز مروره لرئاسة مجلس النواب عام 1993 بموجب مفاهيم التعددية والائتلافات الحكومية. لكن رئاسته للبرلمان في دورتي 1997 و2003 كانت تقديراً لمكانته الشخصية السياسية والاجتماعية لأن حزبه كان قد عاد حينها إلى صفوف المعارضة.

بنى الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر مكانته بمميزات شخصية قيادية كالدهاء والصبر والتأني والتسامح والترفع عن الصغائر ونزاهة اليد، ومن نجاحه أيضا في الجمع بين متطلبات الزعامة القبلية والوجاهة الاجتماعية ومفاهيم السياسة المعاصرة التي جعلت منه شخصية استثنائية بكل معنى الكلمة في تاريخ اليمن المعاصر، فهو الشخصية السياسية الوحيدة التي ظلت حاضرة وفاعلة بقوة لما يقارب من نصف قرن من دون أن يتراجع تأثيره أو تهتز مكانته، وذلك ما جعل منه شخصية محترمة بكل المقاييس ليس على الصعيد المحلي فقط، بل على الصعيدين الإقليمي والعربي، وهذا ما جعل رحلته الأخيرة مملوءة بالأسى والحزن والشعور بالفقدان.