عندما وضع الشيخ بندقيته وحمل عصاه * محمد العلائي

المصدر 1/1/2008م

 

قبل 1962 كانت السلطة تحمل في الوعي العام مدلولاً لاهوتيا صرفاً، وبالتالي كان هامش المناورة محدوداً بالمرة.

ففي 1911 حين أبرم الإمام يحيى حميد الدين اتفاقية صلح "دعان" خرج الشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر مغاضبا إلى عسير، عوضاً عن التمرد على الإمام. عهد ذاك كان هذا الشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر بمثابة القوة الفتاكة بالنسبة للإمام. لقد خاض هذا الرجل المعركة تلو الأخرى ضد الأتراك. وحينما بدأ الإمام يحيى يقطف ثمرة النصر منفرداً، لم يمرق الشيخ ناصر عن طاعته، بل أنه بدلا من ذلك التحق بالإمام محمد بن علي الإدريسي حاكم عسير والمخلاف السليماني آنذاك (لمؤازرته في حربه ضد الدولة العثمانية وأقام عنده حتى توفي في غرة 1340هـ).

الثابت أن اتفاقية "دعان"، والتي تحمل مؤدى واحد: تعزيز سلطة الإمام السياسية والاقتصادية معاً - أثارت حفيظة الشيخ ناصر, بيد أنها لم تكن لتدفعه إلى توجيه السهام نحو نحر الإمام، فهذا الأخير سلطته "ربانية"، في وعي الشيخ ناصر. لقد كان لسان حاله: إمامنا الذي ولاه ربنا لكنه خان، وإذا كان هذا إمام الزيدية فذاك إمام الشافعية (يقصد الإدريسي) هذا إمام وذاك إمام، والكل سادة من آل الرسول. في الواقع كانت الولاءات السياسية تنعقد على مثل هذه "الدوغما" المتغلغلة في النفوس.

لكن الجمهورية كفكرة سياسية (دخيلة)، اجتثت المدلول "اللاهوتي" للسلطة، نظرياً، على الأقل.

وبالتأكيد تشرب الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر المدلولات الجديدة للسلطة السياسية العليا. فبعد ما تبلورت صيغة الحكم (البديلة) في تفكير الضباط الأحرار والتنظيم المدني، شرعوا في تجليس الصيغة عملياً في 26/ سبتمبر/1962. حيث خرج الشيخ عبد الله من السجن يدافع عن تلك الصيغة باستماتة.

لاحقاً لذاك العام، بدأ الشيخ يستلهم في علاقاته بالجمهوريات الخمس المتتابعة، "المفهوميات" الجديدة للحكم.

ومن البين أن علاقة الشيخ عبد الله بالرؤساء كانت دائماً تبدأ قوية وأحياناً حميمة ودافئة، ولكنها، لسبب أو لآخر، ما تلبث أن تفتر رويداً، رويدا إلى أن تنفرط في نهاية الأمر، ويؤول بها المطاف إلى صراع ضار.

المفارقة أن الرجل يجد نفسه بعد كل صراع أكثر عنفواناً وفتوة.

بعد أن اندلعت ثورة سبتمبر 62 تولى المشير عبد الله السلال القيادة. وفي حين كان الشيخ عبد الله محتجزا في المحابشة، فإن المشير لم يغفل الثقل القبلي الكبير الذي يكمن في السجين ذاك.

بُعيد انطلاق شرارة الثورة الأولى بعث المشير السلال برقية إلى عامل المحابشة يأمره فيها بإطلاق الشيخ عبد الله على الفور. وحين لم لينصاع السجان للأوامر قرر الشيخ مغادرة المحابشة على الرغم من كل شيء.

بعد أن استقبلته الجموع القبلية في صنعاء بابتهاج، قصد الشيخ للتو مقر القيادة، فالتقى في تلك اللحظة، إلى جانب الزبيري والإرياني، المشير عبد الله السلال.

لابد أن الشيخ كان يشعر بالامتنان نحو السلال، لكونه بادر إلى إطلاقه قبل أي شيء آخر.

كان هذا هو اللقاء الأول بالرئيس الأول. يقول الشيخ: "وقد أعطاني السلال ذخيرة وقرابة 100 بندقية (شيكي)، وأعطاني أنا بندقية (جرمل) وألف ريال فرانصي (ماريا تريزا) ".

في 1964 تولى منصب وزير الداخلية، في حين كان يجوب مع القبائل مناطق القتال لمهاجمة الملكيين، لاسيما في حجة وعمران وصعدة.

كان الزبيري يمتلك سلطة روحية خارقة على الشيخ عبد الله، وسيكون لهذا التأثير دوره البارز في رسم المسار السياسي للشيخ إلى نهاية حياته، تقريباً وفي هذا يقول الشيخ: " وكان طبيعياً أن تصبح علاقتي (بالزبيري) بعد الثورة علاقة الداعية مع من يؤيده ويتبعه، فهو ثائر ومناضل وصاحب دعوة إصلاحية إسلامية".

 وإذ صارت مسألة ضبط إيقاع علاقة المصريين باليمن هي شغل الزبيري الشاغل، فإن الشيخ عبد الله، على هذا المنوال، راح يسير.

 كان لا مناص من اقتفاء أثر الزبيري.

 فمنذ مؤتمر عمران 2/ سبتمبر 1963م، انضم الشيخ إلى تيار "إصلاح مسار الثورة" الذي يتزعمه الزبيري.

 اعتباراً من ذلك اليوم بدأت الفجوة تأخذ في الاتساع بين الشيخ وأول رئيس للجمهورية.

 يعتقد الشيخ أن تدخل القوات المصرية لإنقاذ الثورة أمر جيد، لكن فكرة إدارة مؤسسات الدولة الوليدة من القاهرة لم تلق لها القبول لديه مطلقاً.

 تعاقبت مؤتمرات المعارضة للسلال بوتيرة عالية. فبعد اغتيال الزبيري في "برط" مطلع 1965 التأم مؤتمر خمر في 2/ مايو /1965. لقد أسفر عن تشكيل حكومة "خمر" برئاسة أحمد محمد نعمان.

 "كان نفس الزبيري هو المسير للمؤتمر، حيث خيم عليه بسياسته وقداسته ومثاليته"، قال الشيخ في سياق وصفة لأجواء مؤتمر خمر.

 لم تدم حكومة النعمان طويلاًَ، فهي ما لبثت أن استقالت. وخلال الفترة الممتدة بين مؤتمر خمر والاستقالة، حاول السلال استمالة "الصف الجمهوري المعارض"، لكنه أخفق تماماً.

 فهو "لم يدرك أن تدخل المصريين والاستسلام لهم في إدارة شؤون الدولة هو من الأسباب الرئيسة للخلاف"، حد تعبير الشيخ.

 في 1966 وصل الخلاف مع السلال نقطة حرجة للغاية.

 آنذاك عاد الشيخ إلى مرابع قبيلته في خمر، قادماً من صنعاء، بعد فشل مؤتمر الطائف، ومؤتمر حرض.

 في عام 1967م عادت القوات المصرية أدراجها. في الواقع كان السلال يستمد قوته من الحضور المصري، وعندما قررت القاهرة سحب قواتها أصيب بالتضعضع والهوان.

 يعزو الشيخ عبد الله تخطيطهم لحركة 5 نوفمبر إلى أنها كانت لدرء المخاطر المحدقة بالثورة، بعد انسحاب المصريين ليس أكثر.

 ومهما يكن من أمر، فالأمور في تلك الحقبة لم تكن تسير على النحو المدون في التاريخ.

 ذلك أن الصراعات حينها كانت تتخذ صيغا مبهمة. فالموضوعي تتصاعد منه نكهة الذاتي، حتى ليكاد المرء يلمسها بيديه، والسياسي يتمظهر في القبلي أو الطائفي، أو المناطقي، وهكذا دواليك. في حين كان الجوهري يتموقع، بشكل مكثف، في الأدبيات (خطابات، بيانات، شعر). أقصد بالجوهري: الشأن الوطني الجامع.

 عموماً فحركة 5 نوفمبر أسدلت الستار على عهد المشير عبد الله السلال.

 من الجيد أن يروي الشيخ هذا المشهد الفاصل: "كان السلال يتوقع قيام حركة ضده بعد وصول الإرياني ومن معه من القاهرة، وربما فضل أن تتم وهو غائب عن البلاد، فلا يلحقه أي لوم إذا لم يعد لديه استعداد للمقاومة، وفي المطار (مطار الحديدة أثناء سفر السلال إلى العراق في زيارة رسمية) استدعاني إلى فوق الطائرة المقلة له وقال لي: "انتبه يا شيخ عبد الله، الجمهورية في عنقك لا يزيدوا عليك الفقهاء، ووضع أصبعه على عنقي".

 سافر السلال لكنه لم يعد رئيساً. فعلى أنقاضه أبتنى الشيخ عبد الله جمهورية أخرى، وضع على رأسها القاضي عبد الرحمن الإرياني.

   

إذاً، أفلح الشيخ عبدالله وفريقه -المنتقى بعناية فائقة- في تنحية السلال، والمجيء بالقاضي الإرياني، بوصفه الرئيس المدني الأول والوحيد طبعاً للجمهورية الثانية.

 بالطبع هذا سبب كافٍ كي يعرف الشيخ كم هو قوي. حاول الإرياني منذ البدء أن يبدي قدراً من الورع، واللامبالاة. فالقاضي العتيد لم تكن تند عنه أي علامات شغف بالحكم. فهو شخصية بسيطة مهادنة على الدوام، مترفعة تكتفي بإزجاء النصائح والعظات للآخرين (يظهر ذلك في مراسلاته المبثوثة في جل أدبيات الثورة).

 يقول عنه الشيخ في مذكراته: "كان الجميع متفقاً على زعامة القاضي الإرياني، فالقاضي بالنسبة للعقلية والإيمان والحكمة والنزاهة والخلق والوطنية لا غبار عليه، وكان محل إجماع العسكري والشيخ والمثقف والعالم".

 شهدت فترة رئاسة الإرياني تحولات فارقة. فمن أحداث أغسطس 68، وحصار السبعين، ودحر قوات قاسم منصر، حظيت الجمهورية بمباركة الجارة السعودية بعد ممانعة شرسة دامت 8 سنوات.

 جرت الأمور بطريقة سلسلة. فمراكز القوى، ومنها الشيخ وقبيلته، كانت تسرح وتمرح دون أن ينبس الإرياني ببنت شفاه.

 حينما تمت ما سميت بالمصالحة الوطنية، أثناء انعقاد مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية في جدة 26/3/1970، كان النعمان (الإبن) قد قطع شوطاً في المساعي الرامية لكسب الصوت السعودي "شديد الإزعاج".

 فالسعودية أصبحت أقل ارتياباً بعد انسحاب الجيش المصري في 67.

 هل نستطيع القول أن ثمة نقاط التقاء جوهرية أدت إلى التقارب الحميم بين الشيخ والمملكة؟

 كان الشيخ يحارب الملكيين، وفي نفس الوقت المصريين والسلال. في حين كانت السعودية تقدم صنوف الدعم للملكيين لكبح المصريين. بعد نكسة حزيران 67 وانسحاب المصرين من اليمن، بدت الرياض كما لو أنها الرابح الأكبر، والشيخ أيضاً.

 في 27/7/1970 أعلنت الرياض رسمياً اعترافها بالجمهورية العربية اليمنية. يومذاك وصل الشيخ عبدالله إلى جدة برفقة الأستاذ محسن العيني وأحمد الشامي، بعد أن استُوعب الملكيين في الحكومة.

 وإذ لم يكن للقاضي أي دور يذكر في المصالحة والاعتراف، فإنه لهذا، ولحسابات أخرى، لم يخطب ود السعودية بأي حال كان.

 "لأن القاضي عبدالرحمن الإرياني -رحمه الله- ما استطاع أن يهضم السعوديين أو يبتلعهم، وبسبب هذا العناد الذي كان عنده حرمنا أشياء كثيرة لمصلحة البلاد" حسبما قال الشيخ في مذكراته.

 بعد 1971 طرأت تبدلات جمة. لكن يمكن القول إن عدم دنو القاضي من السعودية أسوة بغيره، هو البذرة التي اكتمل عودها في 13 يناير 1974. ليس من المرجح أن القاضي أخذ يتواطأ مع التيار اليساري " واليسار خصم لدود بالنسبة للسعودية.. وللشيخ" لقرص أذن المملكة، بيد أن هذا احتمال يجوز استحضاره عند قراءة تلك الحقبة.

 حاول الشيخ عبدالله في مذكراته أن يدمغ معارضته بالوطنية التي لا تشوبها شائبة، وهذا شأنه. فهو أرجع خلافه مع الإرياني إلى سبب واحد: "(تراخي القاضي [مع التيارات اليسارية] وإتاحة الفرصة من قبله لهذه التيارات تعشعش وتفرخ وتقوى تحت مظلته، هو أول الخلاف بيننا".

 

 هل نسينا الإشارة إلى أن القاضي قدم استقالته أكثر من مرة للمجلس الجمهوري لكنها لم تقبل؟

 وإذ اندلعت مناوشات في 22/سبتمبر/ 1972 مع الجنوب، فإن الشيخ، رغم تهويله من خطورة اليساريين، عاد ليقلل من شأنهم.

 

بدأت معارضة الشيخ للقاضي تزداد احتداماً. كان الأول يشكو من خضوع المواقع المفصلية في الدولة لهيمنة الشيوعيين والبعثيين.

 كتب في 22/3/1974 رسالة شديدة اللهجة إلى الشيخ سنان أبو لحوم: "وضعهم(أي اليساريين) في المناصب والمراكز والوظائف، وتصفية العناصر المؤمنة والمستقلة والنزيهة ومحاربتهم، هذا بدعوى أنه قبيلي غير متعلم، وهذا بحجة أنه شيخ، والمشايخ خطيرين، وهذا بحجة أنه سيد هاشمي، وهذا بحجة أنه عابد، وهذا بدعوى أنه من الإخوان المسلمين، أما الأعداء والملحدون فيكفي أنهم ثوريون وتقدميون".

 يذكر الشيخ سنان في سرده للمساعي التي بذلها لتطويق الخلاف أن القاضي قال له: "الشيخ عبدالله يعمل ضدي، وأنا قدمت استقالتي أكثر من مرة، وطلبت منكم أن تحكموا وتختاروا، وما دمتم تريدون أن أبقى في الحكم فلن أقبل المهانة أو أعمل موظفاً لدى أي أحد"..

وجد القاضي نفسه يصارع خصمين فتاكين: السعودية، والشيخ عبدالله.

 لم يألو الشيخ سنان جهداً في محاولته التمويه عن الدور الخفي الذي لعبه في حركة 13 يناير الإنقلابية، في الوقت الذي يؤكد الشيخ عبدالله محورية دور سنان في الحركة، كون الأخير هو المخطط، وهو الذي أعد العدة ومعه الشيخ أحمد المطري والعميد مجاهد أبو شوارب.

 ولئن ألمح الشيخ عبدالله إلى أنه كان في زيارة للصين أثناء الإعداد للإنقلاب، فإنه لم يظهر أنه اعترض على المخطط. لقد كان الفاعل الرئيسي.. تنفيذاً.

 لم يكن القاضي ليقوى على الصمود أمام ذاك التآلب المحموم. إذ ابتدر تقديم استقالته طوعاً وحملها الشيخ سنان إلى الشيخ عبدالله في خمر.

 حزم القاضي أمتعته وانتقل إلى سوريا. وإن آلت مقاليد السلطة إلى المقدم إبراهيم الحمدي، المرضي عنه سعودياً فلأنه "كان أكثر العسكريين سياسة كما كان بيت أبو لحوم يستضعفونه ويعتقدونه في أيديهم" طبقاً للشيخ عبدالله.

 وأياً ما كان الأمر، فالإطاحة بالإرياني تحمل بصمة سعودية بارزة، لكن أكان ذلك من قبيل الصدفة، أم أنه بالتنسيق مع الشيخ، صاحب الكلمة الرئيسة؟

 في مذكراته، يمكن للمرء أن يعثر على إجابة للسؤال، لكنها إجابة تلوح كما لو كانت من مجرد مؤرخ يرقب الأحداث من خارج المسرح: "كان موقف السعودية مؤيداً لحركة 13 يناير ولا أعتقد أنه كان لها دور في التخطيط للحركة، ولكن يبدو أنه كان هناك سر بينهم وبين إبراهيم الحمدي لأنهم كانوا ضائقين بالقاضي الإرياني، وكانوا على علاقة بإبراهيم الحمدي ومعجبين بشخصيته"..

 لا توجد مسافة بين الشيخ ووقائع تلك الفترة، لقد كان هو الحدث، هو الفعل شخصياً.

   

 بدأ الرئيس الحمدي عهده مفعماً بالثقة. كان يعرف ماذا ينبغي عليه أن يقوم به. كانت الدولة في سلم أولوياته، لا شك، غير أنه لم يقدّر حساسية اللحظة. فالسياقات الاجتماعية والعسكرية والسياسية لم تكن سانحة تماماً.

 فعندما استدعى محسن العيني لتشكيل الحكومة، لم يكن يدرك أنه يؤجج أولى شرارات الخلاف، إن يكن مع الشيخ، الذي يناصب البعث العداء، فمع السعودية التي هي الأخرى كانت تطمح في غسل الدولة من البعثيين.

 تعيين محسن العيني (البعثي) رئيساً للحكومة كان بمثابة طوبة الأساس في خصومة سياسية مستعرة.

 لا بد أن الحمدي أصاب الرياض بالخيبة. فهي، عوضاً عن مؤازرته في مواجهة مراكز القوى (المشايخ)، أخذت تلعب دور الوسيط (السلبي).

 

يقول الشيخ: "كانت القيادة السعودية ترغب في حاكم قوي يستطيعون أن يدعموه وهو في أيديهم وقادر على التعامل معهم بدلاً من الفوضى".

 هذه المرة لم يكن الشيخ هو اليد الحاسمة للموقف. فقد دخل عنصر الدم لاعباً مثيراً للهلع. ففي أكتوبر 1977 لقي الحمدي حتفه، بطريقة بشعة، وأعتلى أحمد الغشمي الحكم. لقد أصبحت الجمهورية الرابعة مخضبة بالدم، وليس بالاستقالات. كما كان معهوداً.

  

البندقية تغادر كتف الشيخ

 ارتقى الغشمي سلم الحكم على الجثث، وكان ثمة من يتربص به انتقاماً للحمدي. وبالفعل طارت أشلاءه في منتصف عام 1978. طيلة حكم الغشمي لم يدخل الشيخ صنعاء. كان مناوئاً له طبقاً لمذكراته، رغم أن الغشمي سعى إلى طمأنة الشيخ في لقاء جمعهما بضلاع همدان، عندما قال لهم: "اتركوا لي فرصة" طبقاً لمذكرات الشيخ عبدالله.

 لم يبتّ الشيخ في رئاسة علي عبدالله صالح من عدمها، إلا بعد أن استدعته الرياض، ودعته للموافقة. فالرجل لم يبدي حماسة بالنسبة لصالح، لسببين: "لأننا من ناحية كنا نعتقد أنه غير قادر على تحمل المسؤولية، ومن ناحية أخرى وهي الأهم، كنا نصر على عودة الحكم المدني كي نكفر عن خطأنا السابق". وفي مقابلة مع الجزيرة نهاية 2005م قال الشيخ أن صالح قال له: "أريد أن أكون رئيساً لأسبوع كي انتقم للغشمي فقط".

 وجدت السعودية في صالح ما تصبوا إليه، وكذلك الشيخ. فبعد أن أظهر صالح قدراً من الجدارة في الحكم، راح يروض الشيخ الجامح ويحتويه ويستمد منه بعض القوة.

 الفترة 1978 إلى 1995 كانت خاملة سياسياً. فقد وضع الشيخ بندقيته التي كانت تلازمه كقرط وحمل عصاه.

 لعل صالح أفلح في استيعاب الشيخ، أو أن العكس هو الذي حدث، لكن المؤكد هو أن الشيخ بدأ يعتنق مزاجاً آخر أقل حدة.

 لقد اكتفى بمنصب فخري على مدى 12 عاماً: عضو المجلس الاستشاري. وكانت خلافاته مع صالح تسوى دون أن يضطر إلى الجهر بها، وإن فعل وبشكل حذر ومموه.

 بالنسبة للشيخ كانت تبدو أي بوادر اقتراب مع "النظام الشيوعي" في الجنوب كفأل سيء ينبغي التطير منه، لأسباب بعضها عقائدي، وبعضها سيكولوجي وسياسي بمذاق قبلي.

 فحالما تحدد موعد التوقيع على الوحدة، راح الرجل يتوجس ويرتاب، لكن بصمت مطبق. كان عليه بعد 1990 أن يبرح حالة الاسترخاء التي دامت أزيد من 10 سنوات.

 الراجح أن الرئيس صالح استمرأ تخطي الشيخ، لكنهما لم يسمحا لخلافاتهما قط أن تتخذ لبوس عدائية.

   

  • Facebook
  • Twitter
  • LinkedIn
  • whatsapp