مدير مكتب رئيس مجلس النواب يكتب عن (الوجه الآخر لفقيد اليمن الشيخ عبدالله)

تحدث الكثير من أبناء اليمن والمملكة والخليج بمختلف إتجاهاتهم عن الراحل الفقيد فمنهم من أطلق عليه حكيم اليمن وهو كذلك ، ومنهم من أطلق عليه أب اليمنيين وهو كذلك ، ومنهم من وصفه برجل التوازنات وهو كذلك ، ومنهم من وسمه بصاحب القلب الكبير الرحيم وهو كذلك ، ومنهم من وصفه ببطل الثورة والجمهورية وهو كذلك ، ومنهم ومنهم ومنهم حتى ليعجز المرء أن يحيط بكل تلك الصفات والألقاب التي أطلقوها على رجل عظيم كان بالفعل ملء الدنيا وبصرها .

أما أنا فقد عايشته عن قرب وعملت إلى جانبه لفترة ليست بالقصيرة فماذا سأقول ؟ ومن أين أبداء؟ إن الخواطر كثيرة والمواقف غفيرة وعندي رغبة جامحة في كتابة الكثير والكثير حتى لا أدري ما أكتب ، غير أني سأسرد هنا بعض جوانب سجايا الفقيد الراحل التي لم يعرفها سوى القليلين جداً ممن حوله .

فمن تلك الصفات أنه كان رحمه الله يحترم ويوقر كل ذي شيبه ، فما رأى في ديوانه أو في عمله رجلاً طاعناً في السن يقترب منه إلا وأمر حراسته بعدم منعه من الوصول إليه وتلقاه بوجه بشوش وإبتسامة يعرفها كل اليمنيون ثم قضى له حاجته واستجاب لمسألته وهو راض مسرور.

وكان رحمه الله يقدم الفقراء من أهل تهامه على غيرهم من الزوار وقد لاحظت ذلك مراراً وتكراراً ، فما قدم شخص من تهامه إلا كان له الأولوية في طرح مشكلته والأولوية في معالجتها والإتصال بالمسئولين من أجلها ثم يأمر لهم بالمصروف ويستعجل لهم بذلك ولا يسمح بتأخير ما يجود به لهم إلى اليوم الثاني كما يحصل مع بقية الفقراء المستحقين للمساعدة .

وعندما سألته ذات يوم لماذا تعطي الأولوية لأهل تهامه فقط؟ قال لي : إن هؤلاء يتعبون في صنعاء والبرد في الشتاء يذهبهم أي يضرهم .

كما كان رحمه الله يحرص على مساعدة الكثير من الأسر الفقيرة الكريمة التي لا تسأل الناس إلحافا ، فكان يرسل رسله إلى بيوت هذه الأسر ويواسيها في افراحها واتراحها ولها مخصصات شهرية منه ، ناهيك عن الأعياد والمناسبات خاصة في رمضان ، وهذه الأسر ليست في الحصبة فقط أو في أمانة العاصمة بل أعرف أسراً كريمة كان رحمه الله يساعدها في محافظات عدة وفي بلدان عربية وإسلامية.

كان رحمه الله قد سن سنة حسنة قل أن نجد لها  مثيلاً بين المسئولين فقد فتح باب منزله أمام المظلومين والمستضعفين الذين كانوا يفدون إليه من أنحاء اليمن ومن المملكة والخليج يطلبون إغاثتهم من مظالم مختلفة فيتدخل بما له من مكانة وثقل بعد أن يتأكد من صحة المظلمة فيمضي حتى ينهي تلك المظلمة مهما أخذت من وقته ، أذكر ذات مرة أن شخصاً جاء في مظلمة وفي وقت لا يجوز فيها الزيارة شرعاً لأنه من العورات الثلاث فقلت له لماذا تستقبل هذا الشخص في مثل هذا الوقت ويمكن إستقباله في وقت آخر فقال رحمه الله : ومن يقدر على رد فلان .

كان رحمه الله يصلي أينما أدركته الصلاة في حله وترحاله فديوان المقيل الشهير في الحصبة أصبح مسجداً له إمام ، تقام فيه صلاة المغرب ولا يمنعه من صلاة المغرب أي مانع في صحته ومرضه ، أما في الأسفار الرسمية فقد كان يجمع صلاته جمع تقديم حينما يحل وقت الأولى ولو تعارض ذلك مع مواعيده الرسمية ومقابلاته للمسئولين في البلدان التي يزورها ، وكان لديه القدرة على إستغلال الدقائق المعدودة ليؤدي الصلاة في أي مكان ثم ينطلق إلى مواعيده ومقابلاته ، المهم أن يؤدي الصلاة ويستريح من شيء يؤرقه ، كما كان يطلب مني في زيارته لأي بلد أن أبحث له عن أكبر مسجد فيها ليزوره ويصلي فيه ولقد كان أكثر شوقاً وتلهفاً في زيارته للصين عام 99م للصلاة في جامع بكين ثم زيارة إقليم شينج يانج (تركستان) ذي الحكم الذاتي الذي تقطنه أغلبية مسلمة من الصينيين وكان خلال زيارته لهذا الإقليم في غاية السعادة والسرور وهو يستمع من المسئولين في الإقليم لما يتمتع به المسلمون في ذلك الإقليم من حقوق سياسية بعد أن عانوا طويلاً في الثلاثينات من القرن الماضي .

كان كثير التفكر في الكون وفي ملكوت الله ويخشع قلبه وبصره للآيات الكونية من الكسوف والخسوف فتجده ذاكراً لله أكثر من غيره ، أذكر أننا زرنا جمهورية فنلندا في يونيو 2000م في الأيام التي لا تغيب فيها الشمس لمدة ثلاث أيام بلياليها وقد رتب له نجله حميد الأحمر الزيارة إلى جبال روكا في مقاطعة كوسومو وهي المنطقة التي يمكن من  خلال مشاهدة الشمس في منتصف الليل وقد طلب منا الصعود إلى قمة الجبل فعلاً في منتصف الليل ليرى الشمس بعينه وكان خاشعاً لتلك اللحظات ولم يكتفي بذلك بل طلب منا العودة مرة أخرى إلى قمة الجبل عند الساعة الثانية فجراً ليرى موقع الشمس من جديد وكان يسبح الله ويذكره لتلك الآية ولم ينصرف إلا بعد أن وصلت الشمس إلى أدنى مستوى لها ثم بدأت تشرق من جديد.

كان رحمه الله لا يتغدى مع أهل بيته إلا ما ندر ، أما غداؤه الدائم فقد كان مع الخدم والحرس والبسطاء ممن حوله ، وكنت اتشرف أحياناً بالغداء معه وأرى كيف يحنو على البسطاء حول مائدته ويتولى بنفسه توزيع لحمة الغداء عليهم ليضمن أن الجميع قد نالهم منها نصيب ، ولا ينسى مداعبتهم والسؤال عن أحوالهم ومعالجة قضاياهم ومشاكلهم وهو فوق الغداء ، ولعل حرصه على تناول الغداء معهم كان بهدف رعايتهم ليتأكد أن أمورهم على خير ما يرام ، كما كان الغداء فرصة أيضاً للقاء ببعض الناس من خارج تلك الدائرة لحل مشاكلهم.

كان - رحمه الله – يحب الخيول ولديه إسطبلات في الروضة وفي عمران لرعايتها كما أن لديه في منزله العديد من  الأبقار والأغنام والإبل وكثيراً ما رأيته يعود من عمله في مجلس النواب ليصلي الظهر

أولاً ثم ينزل إلى بستانه الفسيح يتفقد الأبقار والأغنام والإبل ، كما كان يحرص على إطعام الأبقار بيده ويشعر بالسعادة البالغة وهو يقوم بذلك العمل ، وحينما يسافر خارج الوطن لا ينقطع إتصاله بأهل بيته ثم يسأل عن أحوال الأبقار والأغنام ويطمئن أن القضب يصل إليها وأن القائمين على خدمتها يؤدون عملهم تجاهها ، أما الحليب والسمن واللبن فلم ينقطع عن مائدته – رحمه الله . وبعد أن أجرى عملية القلب المفتوح في أمريكا سنة 98م قلل من تناول السمن والدسومات غير أن اللبن ظل عنصراً لم يغيب عن مائدة الغداء بالذات . كان – رحمه الله – لا يحقد على أحد ولا يتمنى لغيره الشر ، فهو متسامح دائماً يترفع عن الإساءة ، لا يخفي في صدره الكره ويظهر الحب ، فالحب والكره لديه صفتان لا يقدر على إخفائهما ، فإن حب أحداً وجدت سلوكه يفصح عن حبه ، وإن كره أحداً تحدث بذلك في العلن ، يكره النفاق والتزلف ويعتبرهما منقصه في الرجل . كان – رحمه الله – يستبشر بالمطر أينما حل وينتابه السرور لسماع أخبار الأمطار في ربوع اليمن سهلها والجبل ويسأل زواره في موسم الأمطار عن حظهم منها ويتأسف ويتأثر حينما لا يجود الموسم بالمطر الوفير لإن الناس تتعب على حد قوله والمطر يقيم أودهم ويسد الكثير من حاجاتهم لإنه يعلم أن معظم اليمنيين يعملون بالزراعة وهطول المطر يعني الكثير لأهل اليمن. كان فقيدنا الراحل مُلِماً بجغرافية البلدان ولديه خارطة جغرافية ذهنية واضحة عن العالم ، ناهيك عن اليمن ، وكان كثيراً ما يناقش السفراء الجدد الذين يلتقي بهم لأول مرة للتعارف عن جغرافية بلدانهم وأحياناً يضع بعضهم في مواقف محرجة حينما يوضح لهم معلومات جغرافية عن بلدانهم يجهلونها . كان – رحمه الله – يحرص دائماً أن يطلعني على كل منعطف هام وجديد في مسيرة عمله وحياته ومن ذلك إبلاغي مبكراً عن نية الترشح لإنتخابات 97 البرلمانية وكذلك إنتخابات 2003م وفي أسفاره وتنقلاته كان يخبرني بترتيباته قبل أن يعلم ذلك من هم حوله وبعد إصابته بالسرطان عام 2006م زرته إلى الرياض في يونيو من نفس العام بعد أن أجرى عملية لإزالة المثانة ، ويوم مغادرتي قصر المؤتمرات بالرياض بعد إنتهائي من زيارته أخذ بيدي وخرجنا من جناحه الخاص نمشي في ردهات القصر حتى ابتعدنا عن الذين من حولنا فوضح لي طبيعة المرض واسترجع من حينه قائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد نصحته بأن يتجلد ويقاوم المرض ويحتسب الأجر عند الله وضربت له أمثلة على شخصيات أصابها ما أصابه من المرض الخبيث وقاومت وبرئت منه فقال لي : الله يختار ما فيه الخير وودعني. في الأشهر الأخيرة من حياته كان يعلم – رحمه الله – أن الموت قد دنى منه وحينما زرته إلى الرياض قبل موته بأسبوعين وبعد عودته من لندن وجلست إلى جانبه في غرفة العناية المركزة بالدور الثاني من مستشفى الملك فيصل التخصصي دعوت الله له بالشفاء وطول العمر فرد عليا قائلاً : مابش فائدة ولكن أدعو الله لي بحسن الخاتمة ، فبكيت بمراره لم أعهدها من قبل وشعرت بأن ظهري قد كسر وأن الظل الذي كنت اتفيأ ظلاله قد ذهب إلى غير رجعه وأن الركن الشديد الذي كنت آوي إليه قد أنهار.

فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

بقلم/ عبدالقوي القيسي مدير مكتب رئيس مجلس النواب الراحل الشيخ / عبدالله بن حسين الأحمر